سير

من التحدي إلى الاكتشاف: قصة العالم أرشر مارتن رائد الكروماتوغرافيا

1. المقدّمة: جذب الانتباه

في عالم الكيمياء التحليلية، هناك شخصيات قليلة تركت بصمة تغيّر مجرى العلم، فتفتح آفاقًا جديدة أمام الأجيال القادمة. واحدة من هذه الشخصيات هي Archer John Porter Martin، الذي جعل من فصل المكوّنات الكيميائية – الذي كان يُعدّ مهمة عسيرة – أداة يومية أسرع وأكثر دقة، فتغيّرت معه أدوات البحث في الكيمياء والبيولوجيا والطب. إن سيرة Martin ليست مجرد سرد لإنجاز علمي، بل هي رحلة إنسانية من طفولة مصحوبة بتحدٍّ وتجربة، إلى نوبل يُحتفى بها، وتأثير يمتد حتى اليوم. هذا المقال يستعرض حياة Archer John Porter Martin، وإنجازاته، وتأثيره العالمي، بأسلوب قصصي يجذب القارئ ويغوص معه في تفاصيل حياة عالم تغيّرت بها الطريقة التي ننظر بها إلى المواد الكيميائية والمركّبات البسيطة.

2. النشأة والتكوين

ولد Archer John Porter Martin في 1 مارس 1910 في مدينة لندن، المملكة المتحدة. نشأ في عائلة تنتمي إلى الطبّ – فوالده كان ممارسًا عامًا للطّب، ما وفّر له بيئة علمية مبكرة نسبيًا. في طفولته، واجه صعوبات تعلّمية – إذ بعض المصادر تشير إلى أنه عانى من عسر القراءة (دسلكسيا) ولم يتعلّم القراءة بسهولة مثل أقرانه. لكن الألم لم يثنه، بل شكّل حافزًا داخليًا ليكون مجتهدًا وعازمًا على إثبات ذاته. في المدرسة، بدا ميالاً للفضول العلمي: كان يتساءل عن طبيعة المواد، ويحاول فهم لماذا تتصرف المواد كما تفعل، أو لماذا تتفاعل بطريقة معينة. وقد كانت هذه الميزة البسيطة بداية لحبّ التجربة والبحث.

3. التعليم وبداية التكوين المهني

في عام 1921، التحق Archer Martin بمدرسة Bedford School، حيث تلقى تعليمه الأساسي حتى عام 1929. بعد ذلك دخل جامعة كامبريدج (Peterhouse) وخرج منها بحصوله على درجة البكالوريوس عام 1932. ومع أنّه دخل الجامعة بنية أن يصبح مهندسًا كيميائيًا، إلا أن تأثير البروفيسور J.B.S. Haldane أدخله إلى تخصص الكيمياء الحيوية (Biochemistry) بدل الهندسة، وهكذا بدأ التوجّه العلمي الذي سيشكّل حياته.
إلى جانب ذلك، بدأ مبكرًا العمل في مختبر Physical Chemistry Laboratory ثم وزارة التغذية (Dunn Nutritional Laboratory) حيث تعرّف إلى الأبحاث المتعلقة بفيتامين E وآثار نقصه. هذا التكوين الأكاديمي والبحثي المهني المنظّم كان الأساس الذي مكّنه لاحقًا من الابتكار العلمي.

4. الانطلاقة المهنية والتحديات الأولى

في جدول زمني مبسّط نوضّح أولى المحطّات المهنية لـ Martin:

السنةالمنصب أو المهمةالملاحظات
1938انتقل إلى Wool Industries Research Association، Leedsبدأ أبحاث الأمِنُو-أَحماض (Amino Acids) والفرز الكيميائي.
1946–1948رئيس قسم الكيمياء الحيوية في Boots Pure Drug Company، Nottinghamالنقلة إلى قطاع الصناعة الدوائية.
1948انضم لهيئة Medical Research Council (MRC)بداية العمل في البحث الوطني البريطاني.

خلال هذه الفترة، واجه Martin تحديات عدّة: في مجال الكيمياء الحيوية والرّصدوات الدقيقة، كانت أدوات الفصل والتحليل أقل تطورًا مما نراه اليوم، وكان على الباحث أن يخترع أو يُطوّر أدواته بنفسه. واحدة من هذه التحديات الكبرى كانت فصل الأحماض الأمينية من البروتينات – مهمة تُعدّ مركزية في معرفة الخرائط الكيميائية للحياة. Martin اجتهد، وبدأ بتطوير تقنية فريدة – هي تقنية “Chromatography” (الكروماتوغرافيا) – التي أسّست لمجزوء علمي كامل.

5. الإنجازات الرئيسية والأثر العالمي

قدّم Archer Martin إنجازًا غير مسبوق: اختراع “Chromatography of partition” (كروماتوغرافيا التقسيم) بالمشاركة مع Richard Laurence Millington Synge، والذي مهدّ لفصل المركّبات الكيميائية بطريقة دقيقة وسريعة. بعد ذلك، طوّر مع A. T. James تقنية الكروماتوغرافيا الغازية-السائلة (Gas–Liquid Chromatography) التي فتحت آفاقاً واسعة في تحليل المواد العضوية والطبيّة.
وقبل تلك النقلة، كانت طرق الفصل والتحليل بطيئة ومكلفة، ومعقدة، ما حد من أبحاث كثيرة في الكيمياء والأحياء والطب. وبعد إنجاز Martin، أصبح بإمكان الباحثين تحليل كميات صغيرة من المواد، تحديدها، وفصْلها، ما ساعد على نمو علوم مثل علم الأحماض الأمينية، علم الجينات، الأدوية، والزراعة.

“For their invention of partition chromatography” — تصريح جائزة نوبل.
تلك المقولة تبرز أن إنجازه لم يكن مجرد تحسين لطريقة، بل فتحّت نافذة نحو تحليل أعمق وفهم أوسع.
وهكذا، فإن “سيرة Archer John Porter Martin” تعكس كيف يمكن لفكرة بسيطة — فصل مادة إلى مكوّناتها — أن تغيّر عالمًا بأكمله.

6. التكريمات والجوائز الكبرى

يُعدّ أهم تكريم حصل عليه Martin هو جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1952، التي شاركها مع Synge. كما أنّه في عام 1950 أصبح زميلاً في الجمعية الملكية (Fellow of the Royal Society – FRS) في بريطانيا. ومن بعد ذلك نال ميدالية John Price Wetherill عام 1959، وميدالية Leverhulme عام 1963.
ردّود الأفعال كانت واسعة: العلماء عدّوه “رائد الفصل الكيميائي” وقالوا إن إنجازه مهد لعصر جديد في التحليل الكيميائي والبيولوجي.

7. التحديات والمواقف الإنسانية

رغم الألقاب، لم يكن الطريق سهلاً. فقد أشارت مصادر إلى أن Martin في مرحلة متأخّرة من حياته عانى من مرض الزهايمر، ما جعله يعاني إنسانيًّا رغم إنجازاته العلمية.
وأكثر من ذلك، فإن قصة شخص واجه صعوبات التعلّم في الطفولة، ثم أصبح عالماً حائِزًا نوبل، تدعو إلى التفكّر: التحدِّي حين يكون داخلياً هو أحياناً الشرارة التي تشعل مسيرة عظيمة. لم يكن Martin مجرد عالم في مختبر؛ بل كان إنساناً محباً للعلم، متواضعاً إلى حد كبير، يرى أن الابتكار العلمي يجب أن يخدم البشر.

8. الإرث والتأثير المستمر

بعيدًا عن التجارب والمحاضرات، ترك Martin إرثاً علمياً ومعرفياً يستمر حتى اليوم. تطبيقات كروماتوغرافيا التقسيم والكروماتوغرافيا الغازية-السائلة جزء لا يتجزّأ من مختبرات الكيمياء التحليلية، والصيدلة، والطب الشرعي، وعلم البيئة. فحين يسأل أحدهم اليوم «كيف نفصل مكوّنات خليط معقّد؟»، فالإجابة تتضمّن بشكل أو بآخر جهود Martin.
وبالتالي فإن “حياة Archer John Porter Martin” ليست قصة إبداع فردي فقط، بل قصة تحول في أدوات البحث العلمي، وتمكين للأجيال القادمة لبذل ما لم يكن ممكنًا من قبل. ويمكن القول إن العالم قبل Martin وبعد Martin هما صورتان مختلفتان من منظور التحليل الكيميائي.

9. الجانب الإنساني والشخصي

من الجانب الشخصي، تزوّج Martin من Judith Bagenal في عام 1943، ولديهما عائلة – منها أبناء وبنات.
كما أنه بعد تقاعده من الجامعة عمل كأستاذ زائر في جامعات مثل جامعة هيوستن، وتسجيله في EPFL بسويسرا.
يُقال إنه كان شخصاً بسيطاً، يعشق الطبيعة، ويقدّر العمل الجماعي، ولم يكن يتباهى بل إنجازاته، بل كان يرى أنّ العلم وسيلة لخدمة الإنسانية، مما يجعله قدوة ليس للعلم فحسب، بل للإنسانية أيضاً.

10. الخاتمة: الدروس المستفادة والإلهام

في خلاصة هذه السيرة، يمكن استخلاص دروس عدة:

  • الإصرار على التعلّم: من طفل يعاني صعوبة في القراءة إلى عالم يحصل على نوبل، يظهر أن التحدِّي يمكن أن يكون بداية تغيير عظيم.
  • أهمية الابتكار العلمي المطبّق: إنّ إنجاز Martin لم يكن نظرياً بحتاً، بل كان أداة عملية أثّرت في مختبرات العالم.
  • خدمة الإنسانية من خلال العلم: ليس كل إنجاز علمي يُترجم إلى خدمة بشرية، ولكن Martin جعل هذا التحول واقعاً.
  • الإرث ليس في الجوائز وحدها: بل في كيف تغيّر أدواتنا ومعارفنا اليومية، وفي كيف يستخدم الباحثون اليوم أدواته.

إن “سيرة Archer John Porter Martin” ليست مجرد سرد لإنسان عظيم، بل هي رسالة لكل من يسعى للتميّز: بأن الفضول، والمثابرة، والتواضع، يمكن أن تصنع فارقاً. لذا فإن قصته ليست فقط قصة عالم حصل على نوبل، بل قصة إنسان زَرع بذوراً لا تزال تنبت اليوم في مختبرات العلوم والتحليل في كل أنحاء العالم.

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
زر الذهاب إلى الأعلى