كتب

من القطيعة إلى الوصل: مقاربة جديدة للتنمية الثقافية في العالم العربي

مقدمة:

في زمن تتلاطم فيه موجات التحديث وتسارع التغيرات المجتمعية، تُطرح أسئلة جوهرية عن الثقافة، دورها، مستقبلها، وحدود تدخل الدولة فيها. وسط هذا الحراك الفكري، يبرز كتاب “إعادة التفكير في التنمية الثقافية: لاستئناف وصل المؤسسات والسياسات والأخلاق” للدكتور محمد محمود عبدالعال حسن كصرخة فكرية منهجية لإعادة ترتيب الأولويات في سياسات التنمية الثقافية العربية، وخصوصًا في السياق المصري.

الكتاب، الصادر عام 2022، ليس دعوة لإصلاح سطحي، بل دعوة للتأمل العميق في البنية التحتية للثقافة كنسق أخلاقي–سياسي–اجتماعي. فالمؤلف ينطلق من سؤال محوري: هل نستطيع الحديث عن تنمية ثقافية حقيقية دون استحضار البعد الأخلاقي، وإعادة ترسيم العلاقة بين الفرد والمؤسسة والسياسات العامة؟

 أولًا: عن المؤلف – د. محمد محمود عبدالعال

باحث ومفكر مصري من طراز خاص، يجمع بين الحس الفلسفي والاهتمام بالتحليل السياسي الثقافي. له العديد من الأبحاث التي تنقب في صلب الإشكالات المؤسسية والتحولات الاجتماعية. يتميز بأسلوبه الرصين وميله إلى إعمال العقل النقدي في تفكيك المفاهيم، مما يجعل كتابه هذا تتويجًا لمسار فكري عميق في قضايا الثقافة والسياسات.

 ثانيًا: البناء المنهجي والفكري للكتاب

ينقسم الكتاب إلى عدة فصول مترابطة تمثل كل منها محطة في رحلة إعادة التفكير في معنى التنمية الثقافية، وهي كالآتي:

1. جدل المفهوم: ما هي التنمية الثقافية؟

يفتتح المؤلف بدراسة تحليلية لمفهوم “التنمية الثقافية”، وهو مفهوم كثيرًا ما يُستخدم دون تمحيص. فهل هي تعني نشر الثقافة؟ تنمية ذائقة الناس؟ إتاحة الكتب؟ أم هي منظومة سياسية ومؤسسية تستهدف بناء الإنسان؟

في هذا السياق، يميز د. عبدالعال بين “الثقافة كمحتوى” و”الثقافة كبنية مؤسسية”. يرى أن التنمية الثقافية لا تقتصر على إنتاج المعرفة، بل تتعلق بإعادة تشكيل علاقات السلطة داخل المجتمع، وضبط التفاعل بين القيم، القوانين، والممارسات.

2. نقد النماذج الموروثة: الدولة الراعية أم الدولة المتدخلة؟

ينتقد المؤلف الأنموذج السائد منذ الخمسينيات في العالم العربي، والذي يجعل من الدولة “الراعي الأوحد للثقافة”. يرى أن هذا النموذج، رغم مساهماته، أفضى إلى بيروقراطية ثقافية خانقة، جعلت من المؤسسات أدوات لبث خطاب رسمي موجه، لا يتفاعل مع الناس ولا يستوعب التعددية الثقافية.

ويطرح تساؤلات مهمة:

  • كيف نُعلي من شأن الاستقلال الثقافي دون السقوط في فوضى السوق؟
  • هل نملك الشجاعة لتفكيك الاحتكار الثقافي الرسمي؟

3. إعادة وصل السياسة بالأخلاق

هنا يتمدد الطرح نحو الفلسفي. فالمؤلف يرى أن أي تنمية ثقافية لا بد أن تستند إلى “أخلاق عامة” تتأسس على العدالة، المسؤولية، والكرامة الإنسانية.

يرفض المؤلف الفصل الحاد بين السياسات العامة والمنظومة الأخلاقية. بل يدعو إلى “أخلاق السياسات”، أي أن تكون خيارات الدولة الثقافية نابعة من شعور حقيقي بالالتزام تجاه الإنسان كمحور كل تنمية.

4. الثقافة والتحديث: بين التبعية والتحرر

يحلل الكتاب علاقاتنا بالحداثة الغربية، ويطرح تحدي “التمثل النقدي” بدل الاستيراد الأعمى. فهناك ميل لاعتبار الحداثة طريقًا واحدًا، بينما الحقيقة أن لكل مجتمع حقه في صوغ حداثته انطلاقًا من تراثه وقيمه.

ويرى أن جزءًا كبيرًا من أزمة الثقافة العربية المعاصرة يعود إلى “الانبهار بمقولات التنمية المستوردة” دون مساءلتها، مما يفضي إلى خطاب ثقافي هش، بعيد عن السياق المحلي.

5. إصلاح المؤسسات الثقافية: من أين نبدأ؟

ينتقل المؤلف من التنظير إلى التطبيق، مقدمًا خريطة طريق عملية لإصلاح البنية المؤسسية للعمل الثقافي. من بين مقترحاته:

  • استقلال المؤسسات الثقافية عن الهيمنة السياسية المباشرة.
  • تمكين الشباب من إدارة الفضاء الثقافي.
  • خلق شراكات بين الدولة، القطاع الخاص، والمجتمع المدني.
  • تجديد آليات الدعم الثقافي بما يخدم حرية الإبداع لا توجيهه.

 ثالثًا: ملاحظات نقدية وتحليلية

✔️ نقاط القوة في الكتاب:

  • العمق الفلسفي والمفاهيمي: لا يكتفي المؤلف بوصف الظواهر، بل يغوص في جذورها الفكرية.
  • الربط بين الأخلاق والسياسة: وهي زاوية نادرة في أدبيات التنمية الثقافية.
  • الوضوح المنهجي: الكتاب لا يتخبط، بل يتحرك ضمن نسق فكري متماسك.
  • التركيز على الإصلاح المؤسساتي دون عداء للدولة: فالدعوة ليست للفوضى بل للمشاركة والشفافية.

❗نقاط يمكن تطويرها:

  • الكتاب، رغم عمقه، موجه أكثر للنخبة المثقفة. هناك حاجة لصياغة أكثر تبسيطًا كي يصل لشرائح أوسع.
  • بعض الفصول كانت بحاجة لأمثلة ميدانية تطبيقية أكثر من الطرح النظري.
  • غابت عن الكتاب إشارات تفصيلية لتجارب دولية مشابهة يمكن أن تُستثمر.

رابعًا: موقع الكتاب في سياق الفكر الثقافي العربي

يُعد هذا الكتاب إضافة نوعية إلى مكتبة الفكر الثقافي العربي المعاصر، حيث أنه يعيد الاعتبار للبعد القيمي في السياسات الثقافية. في زمن طغى فيه منطق السوق، وأُهملت الأسئلة الوجودية، يطرح د. عبدالعال حسن رؤية إنقاذية ثقافية تستند إلى الضمير والمسؤولية التاريخية.

ويمكن مقارنته بأعمال مثل:

  • “ما بعد التنمية” لأرتورو إسكوبار
  • و”الثقافة والمقاومة” لإدوارد سعيد
    وذلك من حيث تعامله مع الثقافة كفعل تحرري نقدي لا كمجرد منتج للاستهلاك.

 خامسًا: لماذا نحتاج هذا الكتاب اليوم؟

في عالم عربي ممزق بين نزعة استهلاكية متوحشة وسياسات ثقافية هامشية، يصبح “إعادة التفكير في التنمية الثقافية” كتابًا ضروريًا. إنه ليس فقط دعوة لتصحيح السياسات، بل لإعادة تأسيس العلاقة بين الدولة والمجتمع على قاعدة الاحترام المتبادل، والتعددية، والعدالة الثقافية.

إنه يُذكرنا بأن الثقافة ليست ترفًا، بل حجر الزاوية في بناء إنسان حر، ناقد، ومنتمٍ.

 

 خاتمة:

ليس من المبالغة القول إن كتاب “إعادة التفكير في التنمية الثقافية” يفتح صفحة جديدة في النقاش الثقافي العربي. إنه لا يزعم امتلاك حلول جاهزة، بل يقدم أفقًا للتأمل وإعادة البناء.

لقد آن الأوان لأن ندرك أن الثقافة لا تنمو بقرارات فوقية أو شعارات إعلامية، بل بخلق فضاء يربط بين السياسات والمؤسسات والأخلاق. وهذا بالضبط ما يسعى إليه المؤلف.

 

لمعرفة المزيد: من القطيعة إلى الوصل: مقاربة جديدة للتنمية الثقافية في العالم العربي

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
زر الذهاب إلى الأعلى