من صفحات النفط إلى شاشات السينما: الحكاية الكاملة لرواية Oil! وفيلم There Will Be Blood

نبذة تعريفيّة عن الرواية
صدرت رواية Oil! للكاتب الأمريكي أبتون سنكلير عام 1927 بالإنجليزية، وتصنّف ضمن الأدب الواقعي الاجتماعي (social realism)، حيث تعكس بتفصيل تحليلي متقدّ الملمس الصراعات الطبقية والرأسمالية في أمريكا خلال عصر ازدهار النفط. رغم أنها لم تحصد جوائز أدبية، إلّا أن الجدل الذي أثارته جعلها من الكتب الأكثر مبيعًا في وقتها، إذ أثار حظرها في بوسطن بسبب مشهد جنسي، ما دفع الناشر لطباعة 150 نسخة بنسخ “fig-leaf” بمحاولة للرقابة عليها، وهذا زاد شعبية الكتاب. انتشرت الرواية بعد ذلك واسعًا، وصدرت ترجمات لها إلى عدد من اللغات، وأدخلتها ضمن الأعمال البارزة في الأدب الأمريكي التقدمي.
رحلة سردية مع الشخصيات والحبكة
1. المشهد الافتتاحي: النفط كفاعل رئيسي
تبدأ الرواية برواية محمولة بين صفحات ثرية بصور اجتماعية وسياسية؛ فالنفط هنا ليس مجرد سلعة، بل هو بطل الرواية الحقيقي. يمتزج سحر الطبيعة الخام بالأجندات السياسية والمادية، فتغدو الأرض المزروعة بالكانولا والمزارع حينًا، والميدان الصناعي بلا قلب حينًا آخر.
2. “جي. أرنولد روس”: الأب الذي يحمل ثقل النفط والسلطة
“جي. أرنولد روس” هو رجل أعمال نفطي هادئ الطباع، يتميّز بالحِكمة والواقعية. يُقدّم نفسه بجاذبية وقوة، رافضًا التهوّر ومفضلًا المفاوضة على العنف. في مواجِه تبدّل كامل عندما يخوض معارك تجارية ضد كبار الثرثارين والسياسيين الفاسدين، متحديًا الرأسمالية القاسية بطريقة معتدلة، عكس صورة الأب المهووس التي تطوّر لاحقًا في الفيلم.
يبدأ مشوار روس من بيت عائلته إلى مجتمع رجال النفط، حيث يجنّد العمال، ويشتري حقوق الحفر، ويتعامل ببراعة واحترام مع البسطاء، محبوبًا من بعضهم، وساخطًا عليه من قلة بسطاء آخرين الذين لا يظنون أن “رجل النفط” قد يحمل قلب إنساني.
3. “باني”: الابن الذي يتقلّد الشعارات الثورية
يقع “باني” في قلب الحبكة كرمز للتناقض، فهو الابن المنحدر من ثروة الأب النفطي، يتعلّق بقضايا العمال، ويغازل الأفكار الاشتراكية بشغف. يمتد صراعه بين ولائه لعائلته الثريّة، وهواجسه أخلاقية – سياسية تجاه الفقراء. تنطلق الرواية في شِغاله الداخلي، حيث يزهد في الترف ويسعى إلى العدالة الاجتماعية.
4. التقاطعات الاجتماعية والسياسية
يتشابك النص مع شخصيات متنوعة: زملاء العمل والاشتراكيين (مثل “بول واتكينز”)، والنساء اللواتي يقدّن العالم من حولهن برؤية مختلفة (مثل “في تريسي” و”راشيل مينزي”). مدن تكشف فساد الأنظمة، وسينين يغذي التوتّرات الطبقية. كل فصل يوسّع الدائرة: من السياسة إلى الترفيه (نجوم السينما)، مرورًا بالحركة النقابية والدينية المضمّخة بالمزايدة.
5. الذروة: الانهيار الأخلاقي والمالي
تصل الرواية إلى ذروتها عندما يتعرّض روس لتحقيقات بسبب فساد النفط، وفي لحظة حزن وانهيار، تهبط صحته، ويتراجع تدريجيًا. بالمقابل، يصعد باني، ليس كإنسان صالح، بل كرمز للطبقة اليسارية الجديدة، بينما الأب ينهار روحيًا وفكريًا. النهاية تسلّط الضوء على تناقض القوة والثروة، وتُظهر النهايات المأساوية لمكسوري الضمير.
عناصر الجمال الأدبي والتشويق
- التصوير الواقعي: سانكلير يرسم معدن المدن النفطية والحقول وغرف الاجتماعات البرجوازية بيد حدادٍ خبير.
- التضاد بين الشخصيات: أبوّة روس، وشعارات باني الثورية، وصراعات من حولهم تجعل القصة نابضة بالحياة.
- اللغة الجميلة والوصف الغني: يصف سانكلير النفط كرمز للقوة والتدمير، والتحدي والتجديد، السماوات الملوّنة والدخان المنبعث من الآبار.
- تزاوج السرد الاجتماعي والدرامي: يعطي القارئ مساحة للتأمل السياسي، وفي الوقت ذاته للاستمتاع بحبكة مشوقة وإنسانية.
الأعمال الفنية المقتبسة عن الرواية
There Will Be Blood (2007)
- الإخراج: بول توماس أندرسون. (Paul Thomas Anderson)
- البطولة: دانيال داي-لويس (Daniel Day-Lewis) في دور دانيال بلاينفيو، وبول دانو (Paul Dano) في دور إيلي سانداي.
- قصة الفيلم: استند على أول 150 صفحة من الرواية، وأعاد صياغة الحبكة بالكامل، فركّز على الأب وأحاديته، بعيدًا عن التوجه السياسي للباني والأحداث اللاحقة.
- الجوائز والتقييمات:
- فاز بجائزة أفضل ممثل (دانيال داي-لويس) وأفضل تصوير سينمائي (روبرت إلسويت) في حفل أكاديمية الأوسكار.
- تقييم IMDb: حوالي 8.1/10.
- Rotten Tomatoes: 91% بالموافقة.
- نال جائزة أفضل فيلم وجائزة أفضل إخراج في جوائز LAFCA وNYFCCO وAFCA عام 2007.
أصداء العمل الفني وتقاليده على الرواية
الفيلم لاقى إعجابًا شديدًا من النقّاد والجمهور، بل اعتُبر تحفة سينمائية للفكر حول الرأسمالية والجشع. أعاد دانيال داي-لويس تقديم الأب بشكل جعله بلا قلب، مقتاتًا الجشع والانهيار الذاتي، وهو ما أكده النقاد ووصفوه بـ”الدرس في تطوّر الشخصية الواحدية”.
النقد أكّد أن الفيلم ليس وفياً بالمعنى التقليدي للرواية؛ إنه اقتباس فضفاض يستقي منه الإطار والتيمة الأساسية، لكنه يبتعد تمامًا عن الرؤية الاجتماعية للباني، التي كانت مركز الرواية. المنتقد جون فاغ في الغارديان كتب:
“Unlike the novel, There Will Be Blood focused on the father, with his son being a supporting character… the rest of the film and novel are nearly entirely different.”
لكن، على الرغم من ذلك، ساهم الفيلم في إعادة نفخ حياة الرواية وجذب قرّاء جدد إليها. لقد أعاد جمهورًا سريع الاستجابة إلى النص الأصلي، وأثار نقاشًا حول الفجوة بين الفن الأدبي والسينمائي، ومفهوم “الولاء للمصدر”.
خاتمة: انعكاس ثقافي مزدوج
رواية Oil! لأبتون سنكلير تظل وثيقة اجتماعية لحقبة صادمة في تاريخ الرأسمالية الأميركية، برؤية نقدية واعية لجشع الطبقات الحاكمة، وهي رواية ذات شحنة أدبية وفكرية قوية. أما فيلم There Will Be Blood، فقد أخذ من الرواية الحافز، لكنه بنى جهانًا آخرَ من الصراعات الفردية والجنون الأخلاقي، وهما يولدان تجربة فنّية مختلفة تمامًا.
الاثنان – رواية وفيلمًا – تركا أثرًا في الثقافة الشعبية: الرواية كمصدر فكري للأدب التقدمي، والفيلم كمثال فني على التأويل الحر والتحول في النقل من النص إلى الشاشة. وهكذا، تبقى الصلة بينهما جسرًا بين الأدب والقوّة السينمائية، يدعو إلى إعادة قراءة كلا العملين على ضوء الآخر.