سير

من ضيق الحياة إلى رحابة نوبل: القصة الملهمة ليوهانس فان دير فالس

  البداية: إشعال الفضول

في زقاق ضيق من شوارع ليدن الهولندية، وُلد حلم صغير يحمل في داخله بذرة ثورة علمية تغيّر فهمنا للمادة من حولنا إلى الأبد. ذلك الطفل كان يوهانس ديديريك فان دير فالس، الذي أضاء بنبوغه العلمي صفحة جديدة في تاريخ الفيزياء. اليوم، نجد أثرًا لهذا الإنجاز العظيم في مساهمته بتحرير العالم من قيود قانون الغازات المثالية نحو فهم أعمق وأكثر دقة باتباعه قانون الحالة الشهير باسمه—والذي مهّد لفوزه بجائزة نوبل في الفيزياء عام 1910.

 النشأة والطفولة: ملامح التكوين

ولد يوهانس ديديريك فان دير فالس في 23 نوفمبر 1837 بمدينة ليدن، هولندا، في أسرة متواضعة؛ والده كان نجارًا، واضطر الطفل للعمل بجدّ من أجل متابعة تعليمه.
في تلك البيئة، حيث لم تُدرّس اللاتينية واليونانية في المدارس العامة، تمكن فان دير فالس من الالتحاق بمدرسة تعليم متقدم وعمل معلمًا، ليتعلم ويقرأ في وقت فراغه بشغف لا يُطفأ.
كانت هذه البذور الأولى لعالم سيغيّر نظرتنا إلى المادة.

 التعليم والمسار الأكاديمي

بين عامي 1862 و1865، التحق فان دير فالس بجامعة ليدن كطالب خارجي، ودرس الفيزياء والرياضيات والفلك.
وفي عام 1873، نال درجة الدكتوراه من نفس الجامعة عن أطروحته الشهيرة: “استمرارية الحالة بين الغاز والسائل”.
هذا العمل جذب انتباه العلماء، وكتب عنه جيمس كليرك ماكسويل قائلًا: “سيكون اسم فان دير فالس قريبًا من بين أعظم العلماء”.

 الانطلاقة المهنية

بعد حصوله على الدكتوراه، أصبح أستاذًا في الفيزياء بجامعة أمستردام عام 1877، واستمر في هذا المنصب حتى عام 1908.
كان أستاذًا صارمًا وباحثًا ملتزمًا، لا يحب الأضواء، لكنه غيّر الكثير من مفاهيم الفيزياء الحديثة.

 الإنجازات العلمية

تعديل قانون الغازات المثالية

ابتكر فان دير فالس معادلة جديدة تأخذ بعين الاعتبار حجم الجزيئات وقوى التفاعل بينها، ليخرج بمعادلة دقيقة تصف سلوك الغازات والسوائل.

مفهوم “الحالات المتشابهة”

أثبت أن جميع الغازات والسوائل تتبع سلوكًا مشتركًا عند مقارنتها بخصائصها الحرجة، وهي فكرة ثورية مهدت الطريق لفهم ديناميكية السوائل.

قوى فان دير فالس

سميت نسبة إليه، وهي قوى تجاذب ضعيفة بين الجزيئات، تلعب دورًا كبيرًا في فهم الكيمياء الحيوية والفيزياء الجزيئية.

 جائزة نوبل

في 10 ديسمبر 1910، مُنح فان دير فالس جائزة نوبل في الفيزياء تقديرًا لأعماله حول معادلة الحالة للغازات والسوائل.
كانت لحظة تتويج لعقود من العمل الدؤوب، وقد ألقى محاضرة نوبل بتواضع، مؤكدًا أن كل ما فعله كان بدافع الإيمان بوجود الجزيئات.

 التحديات

لم يكن طريق فان دير فالس مفروشًا بالورود. فقد واجه عوائق تعليمية بسبب محدودية دراسته الكلاسيكية، وتأخر في نيل الدكتوراه، وفقد زوجته الحبيبة عام 1881، ما أصابه بألم عميق جعله يتوقف عن النشر العلمي لعقد من الزمن.

 الإرث العلمي

ساهم فان دير فالس في تأسيس علم الفيزياء الجزيئية الحديث.
وقد شغل ابنه منصب أستاذ الفيزياء في نفس الجامعة بعده، مواصلًا نهج والده.
وحتى يومنا هذا، لا تزال معادلته تُدرّس في كتب الفيزياء والكيمياء، وقوى “فان دير فالس” جزء من كل دراسة للجزيئات والذرات.

 

الإنسان خلف العالم

كان فان دير فالس شخصًا متواضعًا، عائليًا، محبًا للتعليم.
ابنته كانت شاعرة، وابنه عالم فيزيائي، مما يعكس بيئة فكرية رفيعة.
وقد نُقل عنه قوله: “لم أعتبر الجزيئات أبدًا من نسج الخيال، بل من نسيج الواقع”.

 النهاية والإرث الخالد

توفي فان دير فالس في 8 مارس 1923 عن عمر 85 عامًا، لكنه ترك خلفه أثرًا خالدًا في العلوم الطبيعية.
لا تزال إنجازاته تمثل أساسًا لكثير من النظريات في الفيزياء الحديثة، كما أن اسمه نقش إلى الأبد في تاريخ العلوم.

خاتمة

كانت رحلة يوهانس ديديريك فان دير فالس من معلم متواضع إلى حائز على نوبل، درس في الظل وأبدع في النور، مثالًا على عبقرية الإنسان حين يمتزج العلم بالإصرار.
إنه ليس فقط مخترع معادلة، بل صانع فهم جديد للمادة، وملهِم لكل من يؤمن بأن الشغف بالعلم قادر على تخطي الفقر والعوائق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى