سير

من مختبرات الخميرة إلى منصة نوبل: قصة عبقرية آرثر هاردن

البداية: عبقرية تنبض في المختبر

في زقاق هادئ من أزقة مدينة مانشستر الصناعية، وُلد طفل صغير في 12 أكتوبر 1865، لم يكن يصرخ كغيره، بل كانت عيناه الواسعتان تلمعان بفضول مبكر كأنهما تبحثان عن تفسير لكل شيء. هذا الطفل هو آرثر هاردن، الرجل الذي سيُسهم لاحقًا في كشف أسرار الحياة داخل كل خلية حية.

بين دفاتر الكيمياء والمجاهر، وبين أبخرة التجارب وأصوات الأواني الزجاجية في المختبر، صنع هاردن مسيرة استثنائية. وبلغ ذروة مجده يوم تلقّى جائزة نوبل في الكيمياء عام 1929، لاكتشافه آليات التخمّر الخلوي، التي تشكل جوهر التنفس عند الكائنات الحية.

لكنّ طريقه إلى هذا التتويج لم يكن مفروشًا بالمجد، بل بنقاط التحول، وساعات لا تُعدّ من العمل الهادئ، والفضول اللامتناهي الذي حوّله من طفل يعشق التجارب الصغيرة إلى اسم خالد في سجل العلوم.

 النشأة والطفولة: البذور الأولى في تربة مانشستر

نشأ آرثر هاردن في بيئة متواضعة، حيث كان والده موظفًا في السجل العام. ورغم تواضع الحال، حرصت أسرته على توفير بيئة تعليمية تُشعل داخله حبّ المعرفة. كان للثورة الصناعية التي شهدتها مانشستر في تلك الفترة تأثير كبير على الصبي الصغير، حيث أثارت ضجيج الآلات فضوله نحو “ما وراء الأشياء”.

دخل مدرسة Tettenhall College، وهناك بدأت أولى بوادر تميزه. لم يكن يحب الحفظ، بل يعشق أن يفهم كيف تعمل الأشياء. يقول أحد معلميه لاحقًا:
“هاردن كان لا يرضى بإجابة واحدة، بل يبحث عن الاحتمالات كلها.”

في أحد الأيام، شوهد وهو يخلط مواد تنظيف في مطبخ المنزل لإحداث تفاعل، فقط ليسمع “الفقاعة”! تلك اللحظة لم تكن عبثًا… بل بدايتها.

التعليم والمسار الأكاديمي: حين يتعلم العقل التحليق

تابع آرثر دراسته العليا في جامعة مانشستر (Owens College)، وحصل على درجة البكالوريوس في الكيمياء عام 1885. تميّز بأسلوب تحليلي دقيق، وأثار إعجاب أساتذته، مما أهّله للفوز بمنحة دراسية إلى جامعة إرلانغن الألمانية، ليكمل دراسته العليا هناك.

تحت إشراف العالم أوتو فيشر، أحد أبرز الكيميائيين في أوروبا آنذاك، تتلمذ هاردن على مفاهيم الكيمياء العضوية المتقدمة، خصوصًا ما يتعلق بالتفاعلات الحيوية داخل الجسم.

أنهى دراسته بدرجة الدكتوراه في عام 1891، وعاد إلى بريطانيا وقد حمل معه عقلًا ناضجًا، ومشروعًا علميًا واضح المعالم: أن يكتشف كيف تنبض الحياة في أصغر كيان حي.

 الانطلاقة المهنية: البداية في صمت… ثم ضوءٌ كبير

بدأ مسيرته الأكاديمية أستاذًا في جامعة مانشستر، لكنه لم يلبث أن انضم إلى معهد لويزهم للأبحاث الطبية عام 1897، حيث وجد بيئة مثالية لأبحاثه. هناك التقى بأشخاص يشاركونه الشغف نفسه، وبدأت رحلته الحقيقية.

كانت أبحاثه الأولى تركز على كيمياء الخمائر، وهي كائنات دقيقة تتحول بداخلها السكريات إلى طاقة. لكن الأمر لم يكن بسيطًا. كيف يتم ذلك؟ ما الذي يحرك هذه العمليات؟ الأسئلة كثيرة، والإجابات مبهمة.

وبينما كانت الفرضيات القديمة تسيطر على الساحة، بدأ هاردن يُجري تجاربه الخاصة، بحذر وإصرار.

الإنجازات الثورية: عندما تنطق الخلية

بين عامي 1905 و1925، أجرى هاردن سلسلة من التجارب الدقيقة على الخمائر، وركّز على التفاعلات التي تنتج الطاقة من السكريات. وخلال ذلك، استطاع أن:

  1. يعزل العوامل الضرورية للتخمّر الكحولي (عملية تُحوّل السكر إلى كحول وثاني أكسيد الكربون في الخمائر).
  2. يبرهن أن التخمّر لا يتم فقط بواسطة الخلية الحية، بل هناك مواد ذائبة (أطلق عليها لاحقًا اسم الإنزيمات) تقوم بالدور.

أهم إنجازاته:

  • في عام 1906، نشر بحثًا مفصليًا عن دور “الإنزيمات” في عمليات الأيض.
  • بالتعاون مع الألماني هانز فون أيلر-تشيلين، وضع نموذجًا لتسلسل التفاعلات الكيميائية الحيوية التي تحدث أثناء التحلل السكري.

إن اكتشافات هاردن فتحت أبوابًا جديدة لفهمنا للطاقة في الكائنات الحية.
— لجنة نوبل، 1929١

 لحظة نوبل: اعتراف عالمي

في 10 ديسمبر 1929، حصل آرثر هاردن على جائزة نوبل في الكيمياء مناصفةً مع زميله الألماني هانز فون أيلر-تشيلين، تقديرًا لعملهما في تفسير “التخمّر السكرّي والكيمياء الحيوية للأنزيمات”.

نص بيان لجنة نوبل (بتصرف، مترجم):
“لأجل أبحاثهما في تخمّر السكر وتفسيرهما لدور الإنزيمات في سلسلة العمليات الحيوية.”
— مؤسسة نوبل (1929)

كان لهذا الإنجاز وقع كبير في المجتمع العلمي والطبي، لأنه فتح الطريق لفهم أكبر للأيض والتمثيل الغذائي، ومهّد لأبحاث علاجية لاحقة، خصوصًا في مرض السكري والسرطان.

 التحديات والإنسان وراء العبقرية

رغم العبقرية الظاهرة، لم يكن طريق هاردن مفروشًا بالورود. واجه في بداياته صعوبة في الحصول على تمويل لأبحاثه، كما اتُّهم في البداية بـ”تبسيط الأمور أكثر مما ينبغي”، حتى ثبتت صحة نظرياته تجريبيًا.

في مقابلة نادرة قال:

لم أؤمن يومًا بالنتائج السريعة. العلم يحتاج لصبر يشبه ما لدى المزارعين… يزرعون اليوم ليحصدوا بعد عشر سنين.

هذه الروح كانت وقوده، رغم الضغوط الاجتماعية والمادية التي عاشها في فترات متقطعة.

الجوائز والإرث: أثر لا يموت

إلى جانب جائزة نوبل، نال هاردن أوسمة علمية من عدة مؤسسات علمية عالمية، منها:

  • وسام الجمعية الملكية البريطانية (1910)
  • وسام رمفورد (1926)
  • عضوية الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم

نشر أكثر من 80 بحثًا علميًا، معظمها في مجالات الكيمياء الحيوية والتفاعلات الأنزيمية.

يعتبر اليوم من الآباء المؤسسين للكيمياء الحيوية الحديثة.

 الجانب الإنساني: روح خلف المجهر

لم يكن هاردن عالمًا فحسب، بل كان إنسانًا بسيطًا يُشارك في نشاطات بيئية وخيرية محلية. كان يعشق المشي في الحدائق وتأمل الطبيعة، وغالبًا ما يقول:

كل تفاعل في الطبيعة يُشبه تفاعلًا في داخلنا… نحتاج فقط أن ننظر جيدًا.

 ما بعد نوبل: السنوات الأخيرة والتكريمات

استمر في أبحاثه حتى أواخر عمره، وعيّن محررًا لمجلة Biochemical Journal، مؤثرًا في تطوير المعايير العلمية للنشر والبحث.

توفي آرثر هاردن في 17 يونيو 1940 عن عمر يناهز 74 عامًا. وأقيم له تكريم كبير في لندن، حيث وصفه زملاؤه بأنه:
“رجلٌ فتح النوافذ لندرك كيف تنبض الحياة في خلايا لا تُرى بالعين المجردة.”

لا تزال مؤلفاته تُدرّس حتى اليوم، وأبحاثه مرجع أساسي في مناهج الكيمياء الحيوية.

الخاتمة: إرث يتنفس في كل خلية

من زقاق مانشستر إلى قاعة نوبل، كانت رحلة آرثر هاردن تجسيدًا حقيقيًا لعبقرية هادئة لا تبحث عن الأضواء، بل تصنعها. لم يكن نجمًا جماهيريًا، بل نجمًا في مختبره، حيث صنع فرقًا في فهم الإنسان للحياة نفسها.

سيرة آرثر هاردن تذكّرنا بأن العلم لا يصنعه فقط من يملكون الإمكانيات، بل أولئك الذين لا يتوقفون عن طرح السؤال: “لماذا؟ وكيف؟”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى