نادي غرينزي الأدبي وفطيرة قشور البطاطا: حكاية مكتوبة بالرسائل والذكريات

البداية: رسائل غير متوقعة
كان الشتاء قد بدأ يلفّ لندن ببرودته حين جلست جولييت أشتون، الكاتبة الشابة، على مكتبها تتأمل ركام الرسائل على طاولتها.
أواخر عام 1946، كانت الحرب قد وضعت أوزارها، لكن أصداءها لم تبرح ذاكرة البريطانيين. وكانت جولييت تبحث عن موضوع جديد لكتابها التالي، بعد أن قضت الحرب تكتب مقالات ساخرة باسم مستعار.
في أحد الأيام، وصلتها رسالة من رجل يُدعى داوسي آدامز من جزيرة غيرنزي – وهي واحدة من جزر القنال الإنجليزي.
الرسالة كانت بسيطة، لكنها مشحونة بالفضول: يخبرها الرجل أنه وجد اسمها مكتوبًا على غلاف كتاب لتشارلز لام كان بحوزته، ويسألها إن كانت تستطيع مساعدته في العثور على كتب أخرى.
وهكذا بدأت مغامرة جولييت مع “نادي غرينزي الأدبي وفطيرة قشور البطاطا”.
الحكاية تتكشف: جزيرة وأناس وحرب
حين قررت جولييت أن ترد على داوسي، لم تكن تتوقع أن هذه الرسالة ستكون بداية لارتباط عميق بأناس لم تقابلهم من قبل.
بدأت المراسلات تتدفق بين جولييت وأعضاء النادي، كلٌ منهم يحمل قصة، جرحًا، ذكرى، أو حلمًا مكسورًا.
كيف تأسس النادي؟
في إحدى الليالي أثناء الاحتلال الألماني لغيرنزي، كان بعض سكان الجزيرة عائدين إلى منازلهم بعد تناول عشاء سرّي خالفوا فيه قوانين الاحتلال.
أوقفهم جنود ألمان، ولتجنّب العقوبة، ارتجلوا كذبة بأنهم كانوا يحضرون اجتماعًا أدبيًا. ومن هنا، وُلد “النادي الأدبي”.
لكن الغريب أن الكذبة تحوّلت إلى عادة… ثم إلى متنفس… ثم إلى حقيقة: نادي يجتمع فيه أناس يقرؤون ويهربون من الحرب عبر الأدب.
الشخصيات: موزاييك بشري متكامل
- إليزابيث ماكينا: المرأة الشجاعة التي تحدّت الاحتلال، كانت العمود الفقري للنادي، وغابت عن المشهد حين اعتقلها الألمان، لكنها حضرت في كل رسالة وقلب.
- دووسي آدامز: الفلاح الطيب، رجل الكلمات القليلة، القلب الواسع، والحب الدفين.
- إيزولا برين: المرأة الغريبة الأطوار، الساحرة التي تحتفظ بمشروبها الخاص وأسرارها الكثيرة.
- أميليا مونرو: السيدة الرزينة، التي تمثل صوت الحكمة والكرامة في زمن فقد فيه الناس صبرهم.
- سيدني ستارك: صديق جولييت وناشر كتبها، يمثل العالم القديم الذي بدأ يتغير من حوله.
- مارك رينولدز: الرجل الأمريكي الأنيق، الذي يطارد جولييت بباقة زهور وأحاديث عن نيويورك المستقبلية.
كل رسالة تكشف قطعة من القلب، وتنسج خيطًا جديدًا في قصة معقدة، عميقة، لكنها دافئة.
الصراع: الماضي الذي لا يرحل
مع تتابع الرسائل، بدأت صورة إليزابيث تتضح:
كانت امرأة شجاعة، أخفت طفلًا يهوديًا، تحدّت الجنود، وأخيرًا نُقلت إلى معسكرات الاعتقال، حيث لاقت مصيرها.
ترك غياب إليزابيث فراغًا كبيرًا، لكن الأهم أنها تركت طفلتها كيت في رعاية داوسي.
هنا، بدأ قلب جولييت ينجذب تدريجيًا إلى الجزيرة، إلى هذه الطفلة، وإلى داوسي نفسه.
الصراع الحقيقي في الرواية لم يكن بين بشر وجنود، بل بين الذكريات والنسيان، بين من يريد التقدم، ومن ما يزال عالقًا في الخنادق الداخلية.
الذروة: زيارة الجزيرة
بعد أشهر من المراسلات، قررت جولييت أن تذهب بنفسها إلى غيرنزي.
حين وطئت قدماها الجزيرة، كانت متأهبة لزيارة مكان بسيط، لكنها وجدت عالَمًا متكاملًا من الأرواح التي قاومت القمع بالحب، بالكتب، بالطعام الغريب، وبالفطائر التي تحتوي على قشور البطاطا حين لم يتوفر ما هو أفضل.
مع مرور الأيام، بدأ إحساسها يتغير. شعرت بانتماء لم تعرفه من قبل. تأثرت بكيت، بالقصص التي سمعتها، بالرسائل التي قرأتها، والأهم، بشخصية داوسي الصامتة التي بدأت تأخذ مكانًا في قلبها.
النهاية: الحب يولد من الرسائل
لم يكن حب جولييت وداوسي صاخبًا.
لم تُكتب فيه القصائد، ولا كان مكللًا بالقبلات الحارة.
بل بدأ برسالة، ونما بصمت، ونضج برعاية مشتركة لطفلة فقدت والدتها، وكُلل بإحساس خافت لكنه قوي بأن الانتماء ليس دائمًا حيث وُلدنا، بل حيث نُفهم ونُحب دون حاجة للكلمات.
اختتمت الرواية على نغمة دافئة: أن الكتب تجمع القلوب، وأن الحروف يمكن أن تكون قارب نجاة في بحر الفقد.
الأعمال الفنية المقتبسة عن الرواية
The Guernsey Literary and Potato Peel Pie Society (2018)
النوع: فيلم درامي / تاريخي
الإخراج: مايك نيويل
بطولة:
- ليلي جيمس بدور جولييت أشتون
- ميشيل هويسمان بدور داوسي آدامز
- جيسيكا براون فيندلي بدور إليزابيث ماكينا
- توم كورتني، ماثيو غود، كاثرين باركنسون
إنتاج: Netflix
تقييم IMDb: 7.4/10
تقييم Rotten Tomatoes: 81% (مُعتمد من النقاد)
أصداء الفيلم
لاقى الفيلم استحسانًا كبيرًا من الجمهور والنقّاد، خاصة لجمال التصوير والتمثيل المؤثر لليلي جيمس.
رغم أن الفيلم حذف بعض التفاصيل الدقيقة في الرسائل، إلا أنه حافظ على الروح العامة للرواية – الحنين، دفء العلاقات، والانتصار للأدب كوسيلة للخلاص.
ساهم الفيلم في إعادة إحياء الاهتمام بالرواية، وزاد من مبيعاتها حول العالم، كما أدّى إلى ترجمتها إلى لغات جديدة، وأصبحت مادة معتمدة في نوادي القراءة ومجموعات القرّاء المهتمين بالأدب ما بعد الحرب.
تحليل أدبي: لماذا سحرتنا الرواية؟
- الأسلوب الرسائلي: يتيح لنا الدخول إلى دواخل الشخصيات دون أن يفرض الراوي وجهة نظر واحدة.
- الموضوع الإنساني: عن الحرب، الحب، المقاومة، والفقد.
- المكان غير التقليدي: جزيرة غيرنزي – مكان قلما يُذكر في الأدب العالمي.
- شخصيات لا تُنسى: حقيقية، بسيطة، بشر عاديون يحاولون أن يعيشوا بكرامة وسط الجنون.
- الفكاهة الخفية: رغم الألم، هناك دفء إنساني وأمل في كل سطر تقريبًا.
خلاصة
رواية The Guernsey Literary and Potato Peel Pie Society ليست فقط عن نادي أدبي، ولا عن فطيرة قشور البطاطا الغريبة، بل عن القوة الخفية للكلمة، وعن كيف يمكن للأدب أن يكون مأوى في وجه العنف، وبيتًا حين تنهار البيوت، وصوتًا حين يُمنع الناس من الكلام.
إنها دعوة للقراءة، للتواصل، وللإيمان بأننا لا نُشفى وحدنا، بل عبر قلوب الآخرين التي تُلامسنا ولو عن بعد.