قصص

نجاة الجارية المدفونة: حكاية غانم بن أيوب وسرّ الصندوق..الليلة٣٩

 

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنهم لما وصلوا إلى الوالي وأخبروه، قام الوالي وركب، وأخذ معه الفَعَلةَ بالمِساحي والقِفَف، ومشَوا تابعين أثري، ومعهم كثير من الناس، وأنا قدامهم أبكي وأصيح، وأحثو التراب على رأسي، وألطم على وجهي،
فلما دخلت عليهم، ورآني سيدي وأنا ألطم وأقول:
وا سيدتاه! من يحنّ عليّ بعد سيدتي؟ يا ليتني كنتُ فداءها!

فلما رآني سيدي بُهت، واصفرّ لونه، وقال:
ما لك يا كافور؟ وما هذه الحال؟ وما الخبر؟
فقلت له: إنك لما أرسلتني إلى البيت لأجيء لك بالذي طلبته، رحتُ إلى البيت ودخلته، فرأيت الحائط الذي في القاعة قد وقع، فانهدمت القاعة كلها على سيدتي وأولادها.

فقال لي: وهل سيدتك لم تسلم؟
فقلت: لا، ما سلم منهم أحد، وأول من مات منهم سيدتي الكبيرة.

فقال: وهل سَلِمَت بنتي الصغيرة؟
فقلت له: لا.

فقال لي: وما حال البغلة التي أركبها؟ هل هي سالمة؟
فقلت له: لا يا سيدي؛ فإن حيطان البيت وحيطان الإصطبل انطبقت على جميع ما في البيت، حتى على الغنم والإوزّ والدجاج، وصاروا كلهم كومة لحم، وصاروا تحت الرّدم، ولم يَبقَ منهم أحد.

فقال لي: ولا سيدك الكبير؟
فقلت له: لا، فلم يسلم منهم أحد، وفي هذه الساعة لم يَبقَ دارٌ ولا سكان، ولم يَبقَ من ذلك كله أثر، وأما الغنم والإوزّ والدجاج، فإن الجميع أكلتها القطط والكلاب.

فلما سمع سيدي كلامي، صار الضياء في وجهه ظلامًا، ولم يقدر أن يتمالك نفسه ولا عقله، ولم يقدر أن يقف على قدميه، بل جاءه الكساح، وانكسر ظهره، ومزّق أثوابه، ونتف لحيته، ولطم على وجهه، ورمى عمامته من فوق رأسه، وما زال يلطم على وجهه حتى سال منه الدم، وصار يصيح:
آه وا أولاداه! وا زوجتاه! آه وا مصيبتاه!
من جرى له مثل ما جرى لي؟

فصاح التجار رفقاؤه لصياحه، وبكوا معه، ورثوا لحاله، وشقّوا أثوابهم، وخرج سيدي من ذلك البستان وهو يلطم من شدة ما جرى له، وأكثر اللطم على وجهه، وصار كأنه سكران.

فبينما الجماعة خارجون من باب البستان، إذا بهم ينظرون غبرة عظيمة، وصياحًا بأصوات مزعجة، فنظروا إلى تلك الجهة فرأوا الجماعة المقبلين، وهم الوالي وجماعته، والخَلق والعالَم الذين يتفرّجون، وأهل التاجر وراءهم يصرخون ويصيحون، وهم في بكاء شديد وحزن زائد.

فأول من لاقى سيدي: زوجته وأولاده.
فلما رآهم، بُهت وضحك وقال لهم: ما حالكم أنتم؟ وما حصل لكم في الدار؟ وما جرى لكم؟

فلما رأوه، قالوا: الحمد لله على سلامتك أنت،
ورموا أنفسهم عليه، وتعلّق أولاده به، وصاحوا:
وا أبتاه! الحمد لله على سلامتك يا أبانا.

وقالت له زوجته: الحمد لله الذي أرانا وجهك بسلامة.
وقد اندهشت وطارت عقولهم لما رأوه، وقالت له:
كيف كانت سلامتك أنت وأصحابك؟
فقال لها: وكيف كان حالكم في الدار؟

فقالوا: نحن طيبون، بخير وعافية، وما أصاب دارنا شيء من الشر، غير أن عبدك كافورًا جاء إلينا مكشوف الرأس، ممزق الأثواب، وهو يصيح: وا سيداه، وا سيداه!
فقلنا له: ما الخبر يا كافور؟
فقال: إن سيدي جلس تحت حائط في البستان ليقضي حاجة، فوقَعَ عليه فمات.

فقال لهم سيدي: والله، إنه أتاني في هذه الساعة وهو يصيح:
وا سيدتاه! وا أولاد سيدتاه!
وقال: إن سيدتي وأولادها ماتوا جميعًا.

ثم نظر إليّ جانبه فرآني، وعمامتي ساقطة عن رأسي، وأنا أصرخ وأبكي بكاءً شديدًا، وأحثو التراب على رأسي، فصاح عليَّ، فأقبلتُ عليه، فقال لي:

 

“ويحك يا عبد النحس! يا ابن الزانية! يا ملعون النسب! ما هذه الوقائع التي افتعلتها؟! ولكن والله لأسلخنّ جلدك عن لحمك، وأقطعنّ لحمك عن عظمك!”

فقلت له: “والله ما تقدر أن تفعل بي شيئًا؛ لأنك قد اشتريتني على عيبي بهذا الشرط، والشهود يشهدون عليك حين اشتريتني على عيبي، وأنت كنتَ عالمًا به، وهو أني أكذب في كل سنة كذبة واحدة، وهذه نصف كذبة، فإذا اكتملت السنة، كذبت نصفها الآخر، فتكون كذبة كاملة.”

فصاح عليَّ: “يا ألعن العبيد! أهذا كله نصف كذبة؟! إنما هي داهية كبرى! اذهب عني، فأنت حر.”

فقلت: “والله، إن أعتقتني أنت، ما أعتقك أنا حتى تكتمل السنة، وأكذب نصف الكذبة الباقي، وبعد أن أتمها، فأنزل بي السوق، وبِعني بما اشتريتني به على عيبي، ولا تعتقني، فإني لا صنعة لي أقتات منها. وهذه المسألة التي ذكرتُها لك شرعية، ذكرها الفقهاء في باب العتق.”

فبينما نحن في الكلام، وإذا بالخلائق من الناس وأهل الحارة، نساءً ورجالًا، قد جاءوا ليُقيموا العزاء، وجاء الوالي وجماعته، ففرح سيدي والتجار، وأعلموا الوالي بالقضية، وأن هذه نصف كذبة، فلما سمع الحاضرون ذلك مني، استعظموا تلك الكذبة، وتعجبوا غاية العجب، فلعنوني وشتموني.

فبقيت واقفًا أضحك، وأقول: “كيف يقتلني سيدي، وقد اشتراني على هذا العيب؟!”

فلما مضى سيدي إلى البيت، وجده خرابًا، وأنا الذي خربتُ معظمه، وكسرتُ فيه أشياء تساوي جملة من المال، فقالت له زوجته: “إن كافورًا هو الذي كسر الأواني والصيني.”

فازداد غيظه، وقال: “والله ما رأيت في حياتي عبدًا مثل هذا! ويقول إنها نصف كذبة! فكيف لو كانت كذبة كاملة؟! حينئذٍ لكان خرّب مدينة أو مدينتين!”

ثم ذهب من شدة غيظه إلى الوالي، فضربني علقة شديدة حتى غبت عن الدنيا، وغُشي عليَّ. فأُتي بي إلى المزين في حال غشيتي، فخصاني وكواني، فلما استفقت، وجدت نفسي خصيًا.

وقال لي سيدي: “كما حرقتَ قلبي على أعز شيء عندي، حرقتُ قلبك على أعز شيء عندك.”

ثم أخذني فباعني بأغلى ثمن؛ لأني صرت طواشيًّا، وما زلت ألقي الفتن في الأماكن التي أُباع فيها، وأنتقل من أمير إلى أمير، ومن كبير إلى أكبر، بالبيع والشراء، حتى دخلتُ قصر أمير المؤمنين، وقد انكسرت نفسي، وضعفت قوتي، وفقدت خصاي.

فلما سمع العبدان كلامه، ضحكا عليه، وقالا له: “إنك خبيث، ابن خبيث، لقد كذبت كذبًا شنيعًا.”

ثم قالا للعبد الثالث: “احكِ لنا حكايتك.”

 

حكاية العبد الثالث “بخيت”

قال لهم:
يا أولاد عمي، كلّ ما حكاه هذا باطل، فأنا أحكي لكم سبب قطع خصايَ، وقد كنت أستحقّ أكثر من ذلك؛ لأني كنتُ أنكح سيدتي وابن سيدي!
والحكاية معي طويلة، وما هذا وقت حكايتها، لأن الصباح، يا أولاد عمي، قريب، وربما يطلع علينا الصباح ومعنا هذا الصندوق، فنُفتَضح بين الناس، وتروح أرواحُنا.

فدونكم فتح الباب؛ فإذا فتحناه ودخلنا محلّنا، قلتُ لكم على سبب قطع خصاي.

ثم تعلّق ونزل من الحائط وفتح الباب، فدخلوا، ووضعوا الشمع، وحفروا حفرةً على قدر الصندوق بين أربعة قبور،
وصار كافور يحفر، وصُواب ينقل التراب بالقفاف، إلى أن حفروا نصف قامة.
ثم وضعوا الصندوق في الحفرة، وردّوا عليه التراب، وخرجوا من التربة، وردّوا الباب، وغابوا عن عين غانم بن أيوب.

فلما خَلا لغانم المكان، وعلم أنه وحده، اشتغل فكره بما في الصندوق، وقال في نفسه:
يا تُرى، أيُّ شيء في الصندوق؟
ثم صبر حتى برق الفجر، ولاح وبان ضياؤه، فنزل من فوق النخلة، وأزال التراب بيده حتى كشف الصندوق وخلصه،
ثم أخذ حجرًا وضرب القفل، فكسره وكشف الغطاء، ونظر فيه، فرأى صبية نائمة مُبَنَّجة (أي مخدّرة)،
ونفسها طالع ونازل، إلا أنها ذات حُسن وجمال، وعليها حُليّ ومصاغ من الذهب، وقلائد من الجواهر تساوي ملك السلطان، ما بقي بثمنها مال.

فلما رآها غانم بن أيوب، عرف أنهم تغامزوا عليها،
وكشف الغطاء فرأى صبية نائمة مُبَنَّجة، ذات حُسن وجمال، وعليها حُليٌّ وذهب.

فلما تحقق ذلك الأمر، عالج فيها حتى أخرجها من الصندوق، ورقّدها على قفاها،
فلما استنشقت الرياح، ودخل الهواء في مناخيرها ومنافِسها، عطست،
ثم شرقت وسعلت، فوقع من حلقها قُرص بنج، لو شمّه الفيل لرقَد من الليل إلى الليل!

ففتحت عينيها، وأدارت طرفها، وقالت بكلام فصيح:

“ويحك يا ريح! ما فيك ريٌّ للعطشان، ولا أنسٌ للريان. أين زهر البستان؟”

فلم يُجِبْها أحد، فالتفتت وقالت:

“صبيحة شجرة الدرّ، نور الهدى نجمة الصبح

أنت في شهر نُزهةٍ حلوةٍ ظريفة، تكلّموا!

فلم يُجبها أحد، فجالت بطرفها وقالت:
“وَيْلِي عند إنزالي في القبور،
يا من يعلم ما في الصدور،
ويُجازي يوم البعث والنشور،
من جاء بي من بين الستور والخدور،
ووضعني بين أربعة قبور؟!”

وكان غانم واقفًا على قدميه، فقال لها:
“يا سيدتي، لا خدور، ولا قصور، ولا قبور،
ما هذا إلا عبدُكِ غانم بن أيوب، ساقه إليك الملك علّام الغيوب،
حتى يُنجيكِ من هذه الكروب، ويحصل لكِ غاية المطلوب.”

وسكت. فلما تحقّقت الأمر، قالت:
“أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.”

والتفتت إلى غانم، وقد وضعت يديها على صدرها، وقالت له بكلام عذب:
“أيها الشاب المبارك، من جاء بي إلى هذا المكان؟
فها أنا قد أَفَقْتُ؟”

فقال:
“يا سيدتي، ثلاثة عبيد مخصيّون أتَوا، وهم حاملون هذا الصندوق.”
ثم حكى لها جميع ما جرى، وكيف أمسى عليه المساء حتى كان سبب سلامتها،
وإلا كانت ماتت بغُصّتها.

ثم سألها عن حكايتها وخبرها، فقالت له:
“أيها الشاب، الحمد لله الذي رماني عند مثلك،
فقُمْ الآنَ، وضعني في الصندوق، واخرج إلى الطريق،
فإذا وجدت مكاريًّا وبغالاً، فاستأجرْها لحمل هذا الصندوق،
ووصلني إلى بيتك، فإذا صرتُ في دارك، يكون خيرًا،
وأحكي لك حكايتي، وأخبرك بقصتي، ويحصل لك الخير من جهتي.”

ففرح، وخرج إلى البرّية، وقد شعشع النهار، وطلعت الشمس بالأنوار،
وخرجت الناس ومشوا، فاستأجر رجلاً ببغل، وأتى به إلى التربة،
فحمل الصندوق بعدما وضع فيه الصبية،
ووقعت محبتها في قلبه، وسار بها وهو فرحان؛
لأنها جارية تساوي عشرة آلاف دينار،
وعليها حُلِيّ وحُللٌ تساوي مالاً جزيلاً.

وما صدّق أن يصل إلى داره، فأنزل الصندوق وفتحه.

وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

 

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
زر الذهاب إلى الأعلى