نوبل بامتياز كيميائي: كيف اكتشف ديل سرّ الإشارات العصبية؟

في 9 يونيو 1875، خرج إلى النور طفلٌ يُدعى هنري هاليت ديل، لم تكن ملامحه توحي بما سيصبح عليه، لكنه كان يحمل في داخله شرارة عبقرية ستفتح أبواباً جديدة في فهمنا للجهاز العصبي.
ذلك الصبي الذي ولد لعائلة متواضعة، سيكتشف يومًا ما مع زميله أوتو لويي، أن الإشارات العصبية تنتقل عبر مواد كيميائية، لا كهربائية فقط – اكتشاف سيقودهما معًا إلى جائزة نوبل في الطب أو الفسيولوجيا عام 1936.
النشأة والطفولة: ملامح التكوين
وُلد هنري لعائلة من الطبقة الوسطى، والده تشارلز جيمس ديل كان صاحب مصنع صغير للفخار، ووالدته فرانسيس آن هاليت امرأة مهتمة بالتعليم والثقافة. تربّى بين ستة إخوة، في أجواء يغلب عليها التحفيز العلمي والتشجيع على التعلم.
تعلّق ديل بالقراءة منذ صغره، وكان شغوفًا بالكائنات الحية والتجارب المنزلية البسيطة. تأثر بشدة بأستاذ العلوم في مدرسته الإعدادية، الذي كان يرى فيه ذكاءً فطريًا واستعدادًا علميًا فريدًا. كانت هذه البدايات كافية لتُرسّخ في نفسه الشغف نحو عالم الأحياء والكيمياء.
التعليم والمسار الأكاديمي: خطوات نحو القمة
التحق ديل بمدرسة “The Leys” في كامبريدج، ثم حصل على منحة للالتحاق بكلية ترينيتي في جامعة كامبريدج عام 1894.
في البداية، درس العلوم الطبيعية، وبرز في مجال علم الأحياء، ليتخرج بدرجة ممتازة عام 1900. بعد تخرجه، قرر دراسة الطب، فالتحق بكلية سانت بارثولوميو الطبية بلندن. ثم تابع أبحاثه في جامعة كامبريدج، وحصل على درجة الدكتوراه في الطب عام 1909.
خلال مسيرته الأكاديمية، عمل كمساعد للفيزيولوجي الشهير جون لانغلي، كما سافر إلى ألمانيا للعمل مع بول إيرليش – أحد أعظم علماء المناعة في القرن العشرين. هذه التجارب الأكاديمية المبكرة صقلت مهاراته وزادت من شغفه بالبحث.
الانطلاقة المهنية: أولى خطوات التأثير
في عام 1904، بدأ ديل العمل في مختبرات ويلكوم للبحوث الفسيولوجية في لندن، حيث قام بتجارب مهمة على تأثير العقاقير على الجسم. عام 1906 أصبح مديرًا للمختبر.
فيما يلي جدول زمني لأبرز المحطات المهنية:
السنة | الحدث أو المنصب |
---|---|
1906 | مدير مختبرات ويلكوم |
1914 | مدير قسم الكيمياء الحيوية في المعهد الوطني للبحوث الطبية |
1928 | مدير المعهد الوطني للبحوث الطبية |
1938 | رئيس مؤسسة ويلكوم |
1940–1945 | رئيس الجمعية الملكية البريطانية |
واجه ديل في بداية عمله انتقادات من المجتمع العلمي لتبنيه أفكارًا غير تقليدية، خاصة في مجال النقل الكيميائي العصبي، لكنه أصرّ على تجاربه حتى أثبت صحتها بالأدلة.
الإنجازات الثورية: التغيير الحقيقي
اكتشاف الأستيل كولين
في عام 1914، استطاع ديل عزل مادة الأستيل كولين من عشبة الإرغوت. وبدأ في دراسة تأثيرها على القلب والأوعية الدموية. خلص إلى أنها تلعب دورًا في نقل الإشارات العصبية، وهي فرضية لم يكن أحد يتصورها آنذاك.
التعاون مع أوتو لويي
في عام 1921، أثبت العالم الألماني أوتو لويي أن الأستيل كولين هو فعلاً ناقل عصبي. وبهذا اكتمل الدليل على أن الإشارات العصبية تنتقل كيميائيًا وليس كهربائيًا فقط، ما شكل ثورة علمية في علم الأعصاب.
“مبدأ ديل”
اقترح ديل أن كل خلية عصبية تطلق ناقلًا كيميائيًا واحدًا فقط – ما عُرف لاحقًا بـ “مبدأ ديل”، وأصبح من المبادئ الأساسية في علم الأعصاب.
لحظة نوبل: القمة المنتظرة
في 10 ديسمبر 1936، منحته الأكاديمية السويدية مع زميله أوتو لويي جائزة نوبل في الطب أو الفسيولوجيا، “لاكتشافاتهما المتعلقة بالآليات الكيميائية لنقل الإشارات العصبية”.
ووفقًا لبيان لجنة نوبل:
أحدث هذا الاكتشاف تحولاً في فهمنا لوظائف الجهاز العصبي، وساهم في تطوير علاجات جديدة لأمراض القلب والأعصاب.
عند إعلان الجائزة، عبّر ديل بتواضع عن امتنانه، وقال:
لم أكن أبحث عن المجد، بل عن الحقيقة… والجائزة هي مسؤولية أكثر من كونها شرفًا.
التحديات والإنسان خلف الإنجاز
خلال الحرب العالمية الثانية، واجه ديل ضغوطًا سياسية لوقف أبحاثه وتوجيه طاقته لخدمة الدولة، لكنه قاوم تلك الضغوط، وأصرّ على استمرار بحثه العلمي.
كما خاض جدالات أكاديمية مع مناصري النقل العصبي الكهربائي، إلا أن صموده ونتائج تجاربه غلبت في النهاية.
كان أيضًا إنسانًا بسيطًا، يحب القراءة والشعر، ويتبرع بوقته لتعليم الأطفال وتشجيع الشباب على دخول مجالات البحث.
الجوائز والإرث العلمي
إلى جانب نوبل، حصل على عدد من الجوائز المرموقة:
- وسام كوبلي من الجمعية الملكية (1937)
- وسام الاستحقاق البريطاني (1944)
- فارس الإمبراطورية البريطانية (1932)
- رئيس الجمعية الملكية البريطانية (1940–1945)
أسس ديل قاعدة معرفية ضخمة في علم الأعصاب وعلم الأدوية، وخلّف أكثر من 100 ورقة بحثية، بالإضافة إلى مصطلحات لا تزال تُستخدم حتى اليوم مثل: cholinergic وadrenergic.
الجانب الإنساني: روح خلف العبقرية
رغم انشغاله العلمي، كان ديل ناشطًا في المجال الإنساني، فساهم في دعم مؤسسة Wellcome Trust التي تموّل الأبحاث الطبية حتى اليوم. كما دعم برامج تعليم الفتيات في العلوم، وقال ذات مرة:
العلم بلا أخلاق هو مجرد سلاح… أما بالضمير، فهو خلاص للبشرية.
ما بعد نوبل: الاستمرار أو الخلود
استمر ديل في العمل الأكاديمي حتى عام 1960، وبعدها تولّى مناصب استشارية حتى وفاته.
توفي في 23 يوليو 1968، عن عمر ناهز 93 عامًا، ودُفن في كامبريدج حيث عاش آخر أيامه.
كرمته العديد من المؤسسات بإطلاق اسمه على قاعات بحثية، وميدالية علمية باسم “Dale Medal”، كما سُميت إحدى الفوهات القمرية باسمه تكريمًا لإسهاماته في العلم.
الخاتمة: أثر خالد
إن قصة هنري هاليت ديل تُلخّص المعنى الحقيقي للعقل المستنير. بدأ رحلته من شغف صغير في زقاق لندن، ليرتقي إلى منصات المجد العلمي. بفضله، فهمنا كيف يعمل دماغ الإنسان، وفتح لنا آفاقًا جديدة في الطب.
لا تزال إرثه حيًا، تُدرّس اكتشافاته في الجامعات، وتُستخدم مصطلحاته في الأبحاث، وتُلهم قصته أجيالًا من الباحثين والعلماء.