نور الدين وأنيس الجليس: حين التقت الأقدار بين الصياد والخليفة.. الليلة٣٥

قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن عليًّا نور الدين همَّ قاعدًا، فقال له: يا شيخ إبراهيم، أي شيء هذا؟ أما حلفتُ عليك من ساعة فأبيتَ وقلتَ: إن لي ثلاثة عشر عامًا ما فعلتُه؟ فقال الشيخ إبراهيم وقد استحيا: والله ما لي ذنب، وإنما هي شدّت عليَّ. فضحك نور الدين، وقعدوا للمنادمة، فالتفتت الجارية وقالت لسيدها سرًّا: يا سيدي، اشرب ولا تحلف على الشيخ إبراهيم حتى أفرّجك عليه.
فجعلت الجارية تملأ وتسقي سيدها، وسيدها يملأ ويسقيها، ولم يزالا كذلك مرة بعد مرة، فنظر لهما الشيخ إبراهيم وقال لهما: أي شيء هذا؟ وما هذه المنادمة؟ لِمَ لا تسقيانني وقد صرتُ نديماً لكما؟ فضحكا من كلامه حتى أُغمي عليهما، ثم شربا وسقياه، وما زالوا في المنادمة إلى ثلث الليل.
فعند ذلك قالت الجارية: يا شيخ إبراهيم، عن إذنك هل أقوم وأوقد شمعةً من هذا الشمع المصفوف؟ فقال لها: قومي، ولا توقدي إلا شمعةً واحدة. فنهضت على قدميها وابتدأت من أول الشمع إلى أن أوقدت ثمانين شمعة، ثم قعدت. وبعد ذلك قال نور الدين: يا شيخ إبراهيم، وأنا أي شيء حظي عندك؟ أما تخلّيني أوقد قنديلاً من القناديل؟ فقال له الشيخ إبراهيم: قم وأوقد قنديلاً واحدًا، ولا تتثاقل أنت الآخر.
فقام وابتدأ من أولها إلى أن أوقد ثمانين قنديلاً، فعند ذلك رقص المكان، فقال لهما الشيخ إبراهيم وقد غلب عليه السكر: أنتما أخرع مني. ثم إنه نهض على قدميه وفتح الشبابيك جميعًا، وجلس معهما يتنادمون ويتناشدون الأشعار، وابتُهج بهم المكان.
فقدّر الله السميع العليم الذي جعل لكل شيء سببًا أن الخليفة كان في تلك الساعة جالسًا في الشباك المطل على ناحية الدجلة في ضوء القمر، فنظر إلى تلك الجهة فرأى ضوء القناديل والشموع في البحر ساطعًا، فلاحَت من الخليفة التفاتةٌ إلى القصر الذي في البستان، فرآه يرهج من تلك الشموع والقناديل، فقال: عليَّ بجعفر البرمكي.
فما كان إلا لحظة وقد حضر جعفر بين يدي أمير المؤمنين، فقال له: يا كلب الوزراء، أتخدعني ولم تُعلمني بما يحصل في مدينة بغداد؟ فقال له جعفر: وما سبب هذا الكلام؟ فقال الخليفة: لولا أن مدينة بغداد أُخذت مني، ما كان قصر الفرجة مبتهجًا بضوء القناديل والشموع، وانفتحت شبابيكه! ويلك، من الذي يكون له قدرة على هذه الأفعال إلا إذا كانت الخلافة قد أُخذت مني؟
فقال جعفر وقد ارتعدت فرائصه: ومن أخبرك بأن قصر الفرجة أُوقدت فيه القناديل والشموع وفُتحت شبابيكه؟ فقال له الخليفة: تقدَّم عندي وانظر. فتقدّم جعفر عند الخليفة، ونظر ناحية البستان، فوجد القصر كأنه شعلة نار، نوره غلب على نور القمر.
فأراد جعفر أن يعتذر عن الشيخ إبراهيم الخوالي، ربما يكون هذا الأمر بإذنه لما رأى فيه من المصلحة، فقال: يا أمير المؤمنين، كان الشيخ إبراهيم في الجمعة التي مضت قال لي: يا سيدي جعفر، إني أريد أن أفرّح أولادي في حياتك وحياة أمير المؤمنين. فقلت له: وما مرادك بهذا الكلام؟ فقال لي: مرادي أن تأخذ إذنًا من الخليفة بأني أطهّر أولادي في البصرة. فقلت له: افعل ما شئت من فرح أولادك، وإن شاء الله أجتمع بالخليفة وأُعلمه بذلك. فراح من عندي على هذه الحال، ونسيت أن أُعلمك.
فقال الخليفة: يا جعفر، كان لك عندي ذنب واحد، فصار لك عندي ذنبان؛ لأنك أخطأت من وجهين: الوجه الأول أنك لم تُعلمني بذلك، والوجه الثاني أنك ما بلغت الشيخ إبراهيم مقصوده، فإنه ما جاء إليك وقال لك هذا الكلام إلا تعريضًا بطلب شيء من المال يستعين به على مقصوده، فلم تعطه شيئًا، ولم تُعلمني حتى أُعطيه.
فقال جعفر: يا أمير المؤمنين، نسيت. فقال الخليفة: وحق آبائي وأجدادي، ما أتمّ بقية ليلتي إلا عنده، فإنه رجل صالح، يترَدّد إلى المشايخ، ويحتفل بالفقراء، ويواسي المساكين، وأظن أن الجميع عنده في هذه الليلة، فلا بد من الذهاب إليه، لعل واحدًا منهم يدعو لنا دعوةً يحصل لنا بها خير في الدنيا والآخرة، وربما يحصل له نفع في هذا الأمر بحضوري، ويفرح بذلك هو وأحبابه.
فقال جعفر: يا أمير المؤمنين، إن معظم الليل قد مضى، وهم في هذه الساعة على وجه الانفضاض. فقال الخليفة: لا بد من الرواح عنده.
فسكت جعفر، وتحير في نفسه، وصار لا يدري ما يفعل، فنهض الخليفة على قدميه، وقام جعفر بين يديه، ومعهما مسرور الخادم، ومشوا الثلاثة متنكرين، ونزلوا من القصر، وجعلوا يشقون في الأزقة وهم في زيّ التجار إلى أن وصلوا إلى باب البستان المذكور. فتقدّم الخليفة فرآه مفتوحًا، فتعجب وقال: انظر يا جعفر، الشيخ إبراهيم كيف خلّى الباب مفتوحًا إلى هذا الوقت، وما هي عادته؟ ثم إنهم دخلوا إلى أن انتهوا إلى آخر البستان ووقفوا تحت القصر، فقال الخليفة: يا جعفر، أريد أن أتسلّل عليهم قبل أن أطلع عندهم، حتى أنظر ما على المشايخ من النفحات وواردات الكرامات، فإن لهم شؤونًا في الخلوات.
والجِلوات؛ لأننا الآن لم نسمع لهم صوتًا، ولم نرَ لهم أثرًا.
ثم إن الخليفة نظر فرأى شجرة جوز عالية، فقال:
يا جعفر، أريد أن أطلع على هذه الشجرة، فإن فروعها قريبة من الشبابيك، وأنظر إليهم.
ثم إن الخليفة طلع فوق الشجرة، ولم يزل يتعلّق من فرع إلى فرع حتى وصل إلى الفرع الذي يقابل الشباك، فقعد فوقه، ونظر من شباك القصر، فرأى صبية وصبيًا كأنهما قمران، سبحان من خلقهما، ورأى الشيخ إبراهيم قاعدًا وفي يده قدح وهو يقول:
يا سيدة الملاح، الشرب بلا طرب غير فلاح.
ألم تسمعي قول الشاعر:
أَدِرْهَا بِالْكَبِيرِ وَبِالصَّغِيرِ
وَخُذْهَا مِنْ يَدِ الْقَمَرِ الْمُنِيرِ
وَلَا تَشْرَبْ بِلَا طَرَبٍ
فَإِنِّي رَأَيْتُ الْخَيْلَ تَشْرَبُ بِالصَّفِيرِ
فلما عاين الخليفة من الشيخ إبراهيم هذه الفعال، قام عِرق الغضب بين عينيه، ونزل وقال:
يا جعفر، أنا ما رأيت شيئًا من كرامات الصالحين مثل ما رأيت في هذه الليلة، فاطلع أنت الآخر على هذه الشجرة، وانظر لئلا تفوتك بركات الصالحين.
فلما سمع جعفر كلام أمير المؤمنين صار متحيّرًا في أمره، وصعد إلى أعلى الشجرة، وإذا به ينظر فيرى نور الدين والشيخ إبراهيم والجارية، وكان الشيخ إبراهيم في يده القدح. فلما عاين جعفر تلك الحالة أيقن بالهلاك، ثم نزل فوقف بين يدي أمير المؤمنين.
فقال الخليفة:
يا جعفر، الحمد لله الذي جعلنا من المتبعين لظواهر الشريعة المطهّرة، وكفانا شر تلبيسات الطريقة المزورة.
فلم يقدر جعفر أن يتكلم من شدة الخجل.
ثم نظر الخليفة إلى جعفر وقال:
يا تُرى، من أوصل هؤلاء إلى هذا المكان؟ ومن أدخلهم قصري؟ ولكن مثل هذا الصبي وهذه الصبية ما رأت عيني حسنًا وجمالًا وقدًّا واعتدالًا.
فقال جعفر وقد استرجى رضى الخليفة:
صدقت يا أمير المؤمنين.
فقال الخليفة:
يا جعفر، اطلع بنا على هذا الفرع الذي هو مقابلهم لنتفرج عليهم.
فطلع الاثنان على الشجرة ونظرا إليهم، فسمعا الشيخ إبراهيم يقول:
يا سيدتي، قد تركت الوقار بشرب العقار، ولا يلذّ ذلك إلا بنغمات الأوتار.
فقالت له أنيس الجليس:
يا شيخ إبراهيم، والله لو كان عندنا شيء من آلات الطرب لكان سرورنا كاملًا.
فلما سمع الشيخ إبراهيم كلام الجارية نهض قائمًا على قدميه.
فقال الخليفة لجعفر: يا تُرى، ماذا يريد أن يعمل؟
فقال جعفر: لا أدري.
فغاب الشيخ إبراهيم وعاد ومعه عود، فتأمله الخليفة، فإذا هو عود إسحاق النديم، فقال الخليفة:
والله، إن غنّت الجارية ولم تُحسن الغناء صلبتكم كلكم، وإن غنّت وأحسنت الغناء فإني أعفو عنهم وأصلبك أنت.
فقال جعفر:
اللهم اجعلها لا تُحسن الغناء.
فقال الخليفة:
ولماذا؟
قال جعفر:
لأجل أن تُصلبنا كلنا، فيؤانس بعضنا بعضًا.
فضحك الخليفة، وإذا بالجارية أخذت العود، وأصلحت أوتاره، وضربت ضربًا يذيب الحديد ويفطّن البليد، وجعلت تُنشد هذه الأبيات:
أَضْحَى التَّنَائِي بَدِيلًا مِنْ تَدَانِينَا
وَمُذْ دَنَا طِيبُ لِقْيَانَا تُجَافِينَا
بِنْتُم وَبِنَّا فَمَا ابْتَلَّتْ جَوَانِحُنَا
شَوْقًا إِلَيْكُمْ وَلَا جَفَّتْ مَآقِينَا
غِيظَ العِدَى مِنْ تَسَاقِينَا الْهَوَى فَدَعُوا
بِأَنْ نَغُصَّ فَقَالَ الدَّهْرُ آمِينَا
وَاللهِ مَا الْخَوْفُ أَنْ تَقْتُلُونَا فِي مَنَازِلِكُمْ
وَإِنَّمَا خَوْفُنَا أَنْ تَأْثَمُوا فِينَا
فقال الخليفة:
والله يا جعفر، عمري ما سمعت صوتًا مطربًا مثل هذا.
فقال جعفر:
لعل الخليفة قد ذهب ما عنده من الغيظ.
قال: نعم، ذهب.
ثم نزل من على الشجرة هو وجعفر، ثم التفت إلى جعفر وقال:
أريد أن أطلع وأجلس عندهم، وأسمع الصبية تغني أمامي.
فقال جعفر:
يا أمير المؤمنين، إذا طلعتَ عليهم ربما تكدروا، وأما الشيخ إبراهيم فإنه يموت من الخوف.
فقال الخليفة:
يا جعفر، لابد أن تعرفني حيلة أحتال بها على معرفة حقيقة هذا الأمر من غير أن يشعروا باطلاعنا عليهم.
ثم إن الخليفة وجعفر ذهبا إلى ناحية الدجلة، وهما متفكران في هذا الأمر، وإذا بصياد واقف يصطاد، وكان الصياد تحت شبابيك القصر، فرمى شبكته ليصطاد ما يقتات به.
وكان الخليفة سابقًا قد صاح على الشيخ إبراهيم وقال له:
ما هذا الصوت الذي سمعته تحت شبابيك القصر؟
فقال له الشيخ إبراهيم:
صوت الصيادين الذين يصطادون السمك.
فقال:
انزل وامنعهم من ذلك الموضع.
فامتنع الصيادون من ذلك الموضع، فلما كانت تلك الليلة جاء صياد يُسمّى كريمًا، ورأى باب البستان مفتوحًا، فقال في نفسه:
هذا وقت غفلة، لعلي أستغنم في هذا الوقت صيدًا.
ثم أخذ شبكته وطرحها في البحر، وصار ينشد هذه الأبيات:
يَا رَاكِبَ الْبَحْرِ فِي الْأَهْوَالِ وَالْهَلَكَةْ
أَقْصِرْ عَنَاكَ فَلَيْسَ الرِّزْقُ بِالْحَرَكَةْ
أَمَا تَرَى الْبَحْرَ وَالصَّيَّادَ مُنْتَصِبًا
فِي لَيْلِهِ وَنُجُومُ اللَّيْلِ مُحْتَبِكَةْ
قَدْ مَدَّ أَطْنَابَهُ وَالْمَوْجُ يَلْعَبُ بِهِ
أَطْنَبَهُ والموجُ يَلْطِمُهُ، وعيناه لم تَزَلَا في كَلْكَلِ الشبكة، حتى إذا بات مسرورًا بها فَرِحًا، والحوتُ قد حَطَّ في فَخِّ الرَّدَى حَنَكَه، وصاحب القصر أمسى فيه ليلته مُنَعَّمَ البالِ في خيرٍ من البركة، وصار مستيقظًا من بعد رقدته، لكن في مُلْكِهِ ظَبْيًا، وقد ملكَهُ سبحان ربي، يُعْطِي ذا ويمنع ذا؛ بعضٌ يصيد، وبعضٌ يأكل السَّمَكَة.
فلما فرغ من شعره، وإذا بالخليفة وحده واقف على رأسه، فعرفه الخليفة فقال له: كريم! فالتفت إليه لما سمعه سماه باسمه، فلما رأى الخليفة ارتعدت فرائصه، وقال: والله يا أمير المؤمنين، ما فعلتُه استهزاءً بالمرسوم، ولكن الفقر والعيلة قد حملاني على ما ترى.
فقال الخليفة: اصطدْ على بختي. فتقدَّم الصياد وقد فرح فرحًا شديدًا، وطرح الشبكة وصبر إلى أن أخذت حدَّها وثبتت في القرار، ثم جذبها إليه، فطلع فيها من أنواع السمك ما لا يُحصى، ففرح بذلك الخليفة، فقال: يا كريم، اخلع ثيابك. فخلع ثيابه، وكانت عليه جبَّة فيها مائة رقعة من الصوف الخشن، وفيها من القمل الذي له أذناب، ومن البراغيث ما يكاد أن يسير بها على وجه الأرض، وخلع عمامته من فوق رأسه، وكان له ثلاث سنين ما حلَّها، وإنما كان إذا رأى خرقة لفَّها عليها، فلما خلع الجبَّة والعمامة، خلع الخليفة من فوق جسمه ثوبين من الحرير الإسكندراني والبعلي، وملوطة وفرجية، ثم قال للصياد: خذ هذه والبسها.
ثم لبس الخليفة جبَّة الصياد وعمامته، ووضع على وجهه لثامًا، ثم قال للصياد: اذهب أنت إلى شغلك. فقبَّل رجل الخليفة وشكره، وأنشد هذين البيتين:
أَوْلَيْتَنِي مَا لا أَقُومُ بِشُكْرِهِ
وَكَفَيْتَنِي كُلَّ الأُمُورِ بِأَسْرِهَا
فَلَأَشْكُرَنَّكَ مَا حَيِيتُ وَإِنْ أَمُتْ
شَكَرَتْكَ مِنِّي أَعْظُمِي فِي قَبْرِهَا
فما فرغ الصياد من شعره حتى جال القمل على جلد الخليفة، فصار يقبض بيده اليمنى واليسرى من على رقبته ويرمي، ثم قال: يا صياد، وَيْلَكَ ما هذا القمل الكثير في هذه الجبَّة؟ فقال: يا سيدي، إنه في هذه الساعة يؤلمك، فإذا مضت عليك جمعة فإنك لا تحسُّ به ولا تفكر فيه.
فضحك الخليفة وقال له: وَيْلَكَ! كيف أحتمل هذه الجبَّة على جسدي؟ فقال الصياد: إني أَشْتَهِي أن أقول لك كلامًا، ولكني أستحيي من هيبة الخليفة. فقال له: قل ما عندك. فقال له: قد خطر ببالي يا أمير المؤمنين أنك إن أردت أن تتعلم الصيد لأجل أن تكون في يدك صنعة تنفعك، فإن أردت ذلك يا أمير المؤمنين، فإن هذه الجبَّة تناسبك.
فضحك الخليفة من كلام الصياد، ثم ولّى الصياد إلى حال سبيله، وأخذ الخليفة السمك ووضع فوقه قليلًا من الحشيش، وأتى به إلى جعفر، ووقف بين يديه، فاعتقد جعفر أنه كريم الصياد، فخاف عليه وقال: يا كريم، ما جاء بك هنا؟ انجُ بنفسك فإن الخليفة هنا في هذه الليلة.
فلما سمع الخليفة كلام جعفر، ضحك حتى استلقى على قفاه، فقال له جعفر: لعلك مولانا أمير المؤمنين؟ فقال الخليفة: نعم يا جعفر، وأنت وزيري، وجئت أنا وإياك هنا وما عرفتني! فكيف يعرفني الشيخ إبراهيم وهو سكران؟! فكن مكانك حتى أرجع إليك. فقال جعفر: سمعًا وطاعةً.
ثم إن الخليفة تقدم إلى باب القصر ودقَّه، فقام الشيخ إبراهيم وقال: من بالباب؟
فقال له: أنا يا شيخ إبراهيم.
قال له: من أنت؟
قال له: أنا كريم الصياد، وسمعت أن عندك أضيافًا، فجئت إليك ببعض السمك، فإنه مليح.
وكان نور الدين هو والجارية يُحبّان السمك، فلما سمعا ذكر السمك فرحا به فرحًا شديدًا، وقالا: يا سيدي، افتح له ودعه يدخل لنا بالسمك الذي معه.
ففتح الشيخ إبراهيم الباب، فدخل الخليفة وهو في صورة الصياد، وابتدأ بالسلام، فقال له الشيخ إبراهيم: أهلًا باللص السارق المقامر! تعال أرِنا السمك الذي معك.
فأراهم إياه، فلما نظروا إليه فإذا هو حيٌّ يتحرك، فقالت الجارية: والله يا سيدي إن هذا السمك مليح، يا ليتَه مقليٌّ. فقال الشيخ إبراهيم: والله صدقتِ. ثم قال للخليفة: يا صياد، ليتك جئت بهذا السمك مقليًّا، قم فاقله لنا وهاته.
فقال الخليفة: على الرأس، أقليه وآتي به.
فقال له: عَجِّل بقليه والإتيان به.
فقام الخليفة يجري حتى وصل إلى جعفر، وقال: يا جعفر، طلبوا السمك مقليًّا.
فقال: يا أمير المؤمنين، هاته وأنا أقليه.
فقال الخليفة: وتربة آبائي وأجدادي، ما يقليه إلا أنا بيدي.
ثم إن الخليفة ذهب إلى خَصِّ الخَوَل فتَّش فيه، فوجد فيه كل شيء يحتاج إليه من آلة القلي، حتى الملح والزعتر وغير ذلك، فتقدَّم إلى الكانون، وعلَّق الطاجن وقلاه قليًّا مليحًا، فلما استوى جعله على ورق الموز، وأخذ من البستان ليمونًا، وطلع بالسمك ووضعه بين أيديهم، فتقدَّم الصبي والصبية والشيخ إبراهيم وأكلوا، فلما فرغوا غسلوا أيديهم، فقال نور الدين: والله يا صياد،إنك صنعت معنا معروفًا هذه الليلة.
ثم وضع يده في جيبه، وأخرج له ثلاثة دنانير من الدنانير التي أعطاه إياها سنجر وقت خروجه للسفر، وقال:
يا صياد، اعذرني، فوالله لو عرفتك قبل الذي حصل لي سابقًا، لكنتُ نزعتُ مرارة الفقر من قلبك، لكن خذ هذا بحسب الحال.
ثم رمى الدنانير للخليفة، فأخذها الخليفة وقبّلها، ووضعها في جيبه، وما كان مراد الخليفة بذلك إلا السماع من الجارية وهي تغني.
فقال الخليفة: أحسنتَ وتفضّلتَ، لكن مرادي من تصدّقاتك العميقة أن تغني لنا هذه الجارية صوتًا حتى أسمعها.
فقال عني نور الدين: يا أنيس الجليس.
قالت: نعم.
قال لها: وحياتي أن تغني لنا شيئًا من شأن خاطر هذا الصياد، لأنه يريد أن يسمعك.
فلما سمعت كلام سيدها، أخذت العود وغمزته بعد أن عركت أذنه، وأنشدت هذين البيتين:
وغادةٌ لعِبَتْ بالعود أنْمُلُها
فعادت النفسُ عند الجَسِّ تختلِسُ
قد أسمعتْ بالأغاني مَنْ به صَمَمٌ
وقال: أحسنتِ مُغنًّى مَنْ به خَرَسُ
ثم إنها ضربت ضربًا غريبًا إلى أن أذهلت العقول، وأنشدت تقول هذين البيتين:
ولقد شرفْنا إذ نزلتم أرضَنا
ومحا سَناكم ظلمةَ الديجورِ
فيحقُّ لي أني أخلّقُ منزلِي
بالمسكِ والماوردِ والكافورِ
فعند ذلك اضطرب الخليفة عليه الوجد، فلم يملك نفسه من شدة الطرب، وصار يقول:
طيّبك الله، طيّبك الله، طيّبك الله.
فقال نور الدين: يا صياد، هل أعجبتْك الجاريةُ وتحريكها الأوتار؟
فقال الخليفة: إي والله.
فقال نور الدين: هي هبةٌ مني إليك، هبةُ كريمٍ لا يرجع في عطائه.
ثم إن نور الدين نهض قائمًا على قدميه، وأخذ ملوطة ورماها على الخليفة وهو في صورة الصياد، وأمره أن يخرج ويروح بالجارية.
فنظرت الجارية إليه وقالت:
يا سيدي، هل أنت رايح بلا وداع؟ إن كان ولا بد، فقِف حتى أودّعك.
وأنشدت هذين البيتين:
لَئِنْ غِبْتُمُ عني فإنَّ محلَّكم
لفي مُهْجَتي بينَ الجوانحِ والحشا
وأرجو من الرحمنِ جمعًا لشملِنا
وذلك فضلُ اللهِ يؤتيهِ من يشا
فلما فرغت من شعرها، أجابها نور الدين وهو يقول:
وودعتني يومَ الفراقِ وقالتْ
وهي تبكي من لَوْعَةٍ وفراقِ
ما الذي أنتَ صانعٌ بعدَ بُعدي؟
قلتُ: قولي هذا لمن هو باقي
ثم إن الخليفة لما سمع ذلك، صعب عليه التفريق بينهما، والتفت إلى الصبي وقال له:
يا سيدي، هل أنت خائف من جنايةٍ أو لأحدٍ عليك دين؟
فقال نور الدين: واللهِ يا صياد، إنه جرى لي ولهذه الجارية حديثٌ عجيب وأمرٌ غريب، لو كُتب بالإبر على آماق البصر لكان عبرةً لمن اعتبر.
فقال الخليفة: أما تُحدِّثنا بحديثك وتُعرّفنا بخبرك، عسى أن يكون لك فيه فرج، فإن فرج الله قريب.
فقال نور الدين: يا صياد، هل تسمع حديثنا نظمًا أم نثرًا؟
فقال الخليفة: النثر كلام، والشعر نظام.
فعند ذلك أطرق نور الدين رأسه إلى الأرض، وأنشأ يقول هذه الأبيات:
يا خليلي، إني هجرتُ رُقادي
وهمومي نمت لبعد بلادي
كان لي والدٌ عليَّ شفيقًا
غاب عني مجاورَ الآحادِوجرت لي من بعد ذلك أمورٌ
صرتُ منها مُفتّت الأكبادِ
اشترى لي من الحسان فتاةً
مثل غصنٍ بقدّها الميّادِفصرفْتُ الذي ورثتُ عليها
وتخيّرتُها على الأجوادِ
سِمتُها البيعَ إذ تزايد همّي
وجوى البينِ لم يكن بمراديوإذا ما دعا إليها مُنادٍ
زاد فيها شيخٌ كثيرُ الفسادِ
فلهذا اغتظتُ غيظًا شديدًا
ولمُلْكي جذبتُها بِيَدِيفترَدّى ذاك اللئيمُ بقُبحٍ
ثم قادَتْ فيه لظى الآحادِ
من غرامي لكمتُه بيميني
وشمالي حتى شفيتُ فؤاديومن الخوف قد أتيتُ لداري
وتيقّنتُ سطوةَ الأضدادِ
فهُدي مالك البلاد لحبسي
فأتى الحاجبُ الرشيدُ السدادِرامزًا كي أسيرَ سيرًا بعيدًا
عن ذراهم مكمّدًا حسادي
فطلعنا من دارِنا جُنحَ ليلٍ
طال بين المقام في بغدادِليس شيءٌ من الذخائر عندي
دونها منحةٌ إلى الصيادِ
غير أني أُعطيك محبوب قلبي
فتيقّن أني وهبتُ فؤادي
فلما فرغ من شعره، قال الخليفة:
يا سيدي نور الدين، اشرح لي أمرك.
فأخبره نور الدين بحاله من أوله إلى آخره، فلما فهم الخليفة هذه الحال، قال له:
أين تقصد في هذه الساعة؟
قال له: بلاد الله فسيحة.
فقال له الخليفة:
أنا أكتب لك ورقةً توصلها إلى السلطان محمد بن سليمان الزيني، فإذا قرأها لا يضرك بشيء.
وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.