سير

هانز أدولف كريبس: سيرة عالم غيّر خريطة الطب والكيمياء الحيوية

المقدمة: حين يقود الاكتشاف إلى إعادة كتابة العلم

في تاريخ العلوم، هناك شخصيات لا تكتفي بإجابة سؤال علمي، بل تغيّر طبيعة الأسئلة نفسها. من بين هؤلاء العلماء يبرز هانز أدولف كريبس، الطبيب والكيميائي الحيوي الألماني الذي تحوّل اسمه إلى جزءٍ من تكويننا البيولوجي ذاته؛ إذ ارتبط بواحد من أهم الاكتشافات العلمية في القرن العشرين: دورة حمض الستريك أو ما يعرف عالميًا بـ دورة كريبس.

هذا الاكتشاف لم يكن مجرد خطوة جديدة في علم الكيمياء الحيوية، بل كان ثورةً كشفت للمرة الأولى كيف يحوّل الجسم المواد الغذائية إلى طاقة، وكيف تعمل الخلايا كعالمٍ متكامل من التفاعلات الدقيقة. سيرة هانز كريبس ليست مجرد سرد لإنجاز، بل رحلة إنسانية وعلمية تجسد الإصرار المنهجي والفضول العلمي، وتضعنا أمام نموذجٍ لعالمٍ صنع لنفسه مكانة خالدة في صفحات المعرفة.

في هذا المقال الممتد بين 1500 و2000 كلمة، سنسافر عبر محطات حياته، نقرأ نشأته وتكوينه، ونتوقف أمام عقباته وإنجازاته وأفكاره التي أدت إلى ثورة علمية أثّرت في كل من الطب والبيولوجيا والكيمياء.

النشأة والتكوين: طفل يبحث عن القوانين داخل الطبيعة

وُلد هانز أدولف كريبس في 25 أغسطس 1900 في مدينة هيلدسهايم الألمانية لعائلة يهودية مثقفة. كان والده، الدكتور جورج كريبس، طبيبًا مرموقًا في المدينة، بينما كانت والدته سيدة منزل تهتم بالثقافة والفنون. وقد ساهم هذا الجو العام في تشكيل وعي هانز منذ طفولته المبكرة.

نشأ الصبي في منزل تُفتح فيه الكتب قبل النوافذ، وتُناقش فيه العلوم على مائدة الطعام كما لو كانت حكايات مسلية. يروي كريبس في إحدى مذكراته:
“كنت أظن أن كل طفل في العالم يعرف تركيب الدم كما أعرفه أنا.”

هذه البيئة العلمية أطلقت مبكرًا فضوله نحو كيفية عمل الجسد، وما الذي يجعل الإنسان قادرًا على الحركة والنمو والشفاء. وهكذا، لم يكن غريبًا أن يجمع هانز في طفولته عينات من النباتات والحشرات، ويجري عليها تجارب بسيطة بمساعدة والده.

كانت ألمانيا في مطلع القرن العشرين تعيش نهضة أكاديمية واسعة؛ فالمختبرات تتوسع، والجامعات تنافس بعضها في الاكتشافات. وقد تأثر كريبس بهذا الجو المتسارع، فبدأ يرى نفسه داخل عالمٍ أكبر من حدود مدينته الصغيرة.

التعليم وبداية التكوين المهني: رحلة الطبيب الباحث

عندما بلغ السادسة عشرة، دخل هانز كريبس مدرسة هانوفر، ثم التحق بكلية الطب في جامعة غوتنغن عام 1918، في مرحلة كانت أوروبا تخرج فيها من الحرب العالمية الأولى. ورغم الاضطراب السياسي والاقتصادي، كان كريبس منشغلًا بالعلم فقط؛ يقرأ، ويحلل، ويبحث عن الأسئلة التي لم يتجرأ أحد بعد على طرحها.

تنقل بين جامعات غوتنغن، فرايبورغ، وهامبورغ، وكان طوال تلك السنوات يبحث عن نقطة التقاء بين الطب الأساسي والكيمياء. لم يرَ الطب مجرد وصف للأمراض أو تشخيص للحالات، بل اعتبره نافذة نحو فهم أعمق لعمل الخلية.

في عام 1925 حصل على شهادة الطب، لكن بدلاً من الانغماس في العمل السريري كما كان يتوقع الجميع، اختار طريقًا مختلفًا؛ طريق البحث العلمي. وكان هذا القرار أول خطوة في رحلة ستقوده لاحقًا لاكتشاف أهم دورة كيميائية في جسم الإنسان.

الانطلاقة المهنية والتحديات الأولى: عالم تحت نيران السياسة

بدأت مسيرة كريبس المهنية في مختبر الطبيب الشهير أوتو فاربورغ في برلين، الحائز لاحقًا على جائزة نوبل. كان العمل في مختبر فاربورغ حلمًا لكل باحث في ذلك الوقت، فهو واحد من رواد علم التمثيل الغذائي والأكسدة.

هناك، تعلّم كريبس الدقة التي تحتاجها الأبحاث، والصرامة التي يجب أن يتسلح بها الباحث أمام الفرضيات. لكنه لم يمكث طويلاً؛ فمع صعود النازية في الثلاثينيات، أصبح انتماؤه اليهودي عائقًا قاتلًا.

في 1933، صدرت قوانين تمنع اليهود من العمل في المؤسسات الأكاديمية الألمانية. وجد كريبس نفسه فجأة مطرودًا من عمله، بلا مختبر ولا مستقبل واضح. يصف تلك الفترة بقوله:
“كان عليّ أن أختار بين الصمت والمغادرة. فاخترت أن أغادر حاملاً معي ما تبقى من أدواتي وحلمي.”

غادر كريبس إلى بريطانيا، وكانت هذه الهجرة نقطة تحوّل محورية ستعيد تشكيل مصيره، وتمهّد لاكتشافه الأكبر.

الإنجازات الرئيسية والأثر العالمي: ولادة دورة كريبس

1. بداية الاكتشاف (1937): إعادة تفسير الحياة داخل الخلية

في جامعة كامبريدج، ثم في جامعة شيفيلد، بدأ كريبس يتعمق في دراسة كيفية إنتاج الطاقة داخل الخلايا. وفي عام 1937، توصل إلى اكتشاف الدورة التي ستغيّر العالم: دورة حمض الستريك.

تشرح هذه الدورة كيف تقوم الخلايا بتفكيك المواد الغذائية (الكربوهيدرات، الدهون، البروتينات) وتحويلها إلى طاقة على هيئة جزيئات ATP. كانت تلك المرة الأولى التي يفهم فيها الإنسان بدقة كيف “تتنفس” الخلايا وكيف تستمر الحياة.

قال أحد العلماء آنذاك:
“قبل كريبس كنا نرى الأشجار فقط، وبعده رأينا الغابة كاملة.”

2. الأثر العالمي للاكتشاف

قبل اكتشاف دورة كريبس، كانت الأبحاث حول الطاقة الخلوية متفرقة، غير مكتملة، وتعتمد على فرضيات جزئية. لكنه قدّم إطارًا شاملًا يربط بين العمليات الحيوية في كل كائن حي.

أثر اكتشافه على:

  • الطب: فهم أمراض الأيض والسكري والسرطان.
  • الكيمياء الحيوية: تأسيس مفهوم المسارات الأيضية المنظمة.
  • البيولوجيا الجزيئية: فهم كيفية توازن الجسم بين البناء والهدم.
  • الزراعة والبيئة: تحسين إنتاجية النباتات عبر فهم التمثيل الغذائي.

ومن هنا أصبحت “إنجازات هانز كريبس” جزءًا أساسيًا من التعليم الطبي حول العالم.

3. إنجاز آخر: دورة اليوريا

قبل اكتشاف دورة حمض الستريك، قدّم كريبس اكتشافًا مهمًا آخر عام 1932: دورة اليوريا، وهي العملية التي يخلص بها الجسم من الأمونيا السامة. كان هذا أول دليل على وجود مسارات دائرية منظمة داخل الخلية، وقد مهد الطريق لاكتشافه الأكبر لاحقًا.

التكريمات والجوائز الكبرى

أبرز الجوائز التي حصل عليها هانز كريبس:

1. جائزة نوبل في الطب أو الفسيولوجيا عام 1953

وقد مُنحت له تقديرًا لاكتشاف دورة حمض الستريك، واعتُبر ذلك أحد أعظم إنجازات الكيمياء الحيوية.
كتب أعضاء لجنة نوبل آنذاك:
“اكتشاف كريبس أعاد تعريف فهمنا للحياة نفسها.”

2. وسام الاستحقاق البريطاني (1958)

وهو أحد أرفع الأوسمة في المملكة المتحدة.

3. عضوية الجمعية الملكية البريطانية

أصبحت أبحاثه جزءًا من الأساس الذي تعتمد عليه العلوم الطبية الحديثة.

التحديات والمواقف الإنسانية: الإنسان خلف المختبر

رغم إنجازاته العلمية، عاش كريبس سلسلة من المعاناة الشخصية:

  • تهجير قسري من وطنه بسبب النازية.
  • خسارة والده الذي لم يحتمل الظروف السياسية.
  • صعوبة بداية حياته في بريطانيا كلاجئ لا يملك مختبرًا ولا وظيفة ثابتة.

ومع ذلك، لم يتوقف عن البحث. كان يقول دائمًا:
“العلم هو المنفى الوحيد الذي يمنحك وطنًا.”

كان معروفًا بتواضعه وهدوئه، ويعامل طلابه كما لو كانوا شركاء في الاكتشاف. وقد ساعد العديد من الباحثين الشباب على الانطلاق، مؤمنًا أن العلم إرث جماعي لا ينسب لشخص واحد فقط.

الإرث والتأثير المستمر: كريبس الذي يعيش داخل كل خلية

لا تزال “حياة هانز كريبس” حاضرة في كل كتاب طب، وكل محاضرة حول التمثيل الغذائي، وكل معمل في العالم.
إن دورة حمض الستريك هي حجر الأساس في فهم البيولوجيا الحديثة، ولا يمكن لأي دراسة في الطب أو الكيمياء الحيوية أن تتجاوزها.

إرثه العلمي يتمثل في:

  • تغيير مفهوم الطاقة في الخلية.
  • تأسيس منهجيات بحثية ما تزال تُستخدم.
  • إرسال رسالة إنسانية عن قدرة العلم على تجاوز السياسة والعنصرية.

يعتبره الكثيرون “أبو الكيمياء الحيوية الحديثة”.

الجانب الإنساني والشخصي: عالم يفكّر بعينَي الطبيب

كان كريبس أبًا لولدَين، ويعيش حياة عائلية هادئة. يميل إلى القراءة، والموسيقى الكلاسيكية، ويكتب أوراقًا بحثية حتى في أيام إجازته. وقد عرف عنه الانضباط الشديد، لكنه كان في المقابل عطوفًا وهادئًا.

ترك كلمات خالدة تعبر عن فلسفته، منها:
“ليس المهم أن تجد الإجابة، بل أن تعرف كيف تسأل السؤال الصحيح.”

الخاتمة: الدروس المستفادة من سيرة هانز أدولف كريبس

إن سيرة هانز أدولف كريبس ليست قصة عالم فقط، بل هي قصة إنسان تحدى أعتى الظروف السياسية، وتمسّك بالعلم كطريق للحرية. يعلمنا كريبس أن الإلهام ليس حدثًا مفاجئًا، بل ثمرة فضولٍ مستمر، وصبرٍ طويل، وإيمانٍ لا يتزعزع بالمعرفة.

لقد ترك وراءه إرثًا ينير المختبرات، ويسكن داخل كل خلية بشرية؛ فدورة كريبس ليست مجرد تفاعل كيميائي، بل رمزٌ لانتصار العقل الإنساني.

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك الإعلان هنا
تواصل معنا لوضع إعلانك
زر الذهاب إلى الأعلى