هانس فيشر: كيميائي منح الضوء للدم… سيرة رجل غيّر مسار العلم

المقدمة: عبقرية تتجلى في خلية دم
في عالم الكيمياء الحيوية، حيث تتشابك الجزيئات لتروي قصة الحياة، برز اسم هانس فيشر كأحد الروّاد الذين أعادوا تعريف فهم الإنسان لأحد أهم أسرار جسده: الهيموغلوبين. لم يكن فيشر مجرد عالم تجارب، بل راويًا للجزيئات، منحها من خلال أبحاثه معنى جديدًا، وجعل من الكيمياء بوابة لفهم أعماق الكائن الحي.
إن سيرة هانس فيشر، الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1930، ليست مجرد قصة نجاح علمي، بل ملحمة إنسانية وعلمية غيّرت فهمنا للدم والضوء والحياة ذاتها.
النشأة والتكوين: من بازل إلى برلين
وُلد هانس فيشر في 27 يوليو 1881، في مدينة بايزل السويسرية، لأسرة ألمانية مرموقة. كان والده طبيبًا كيميائيًا، ما أوجد بيئة محفزة علميًا منذ الصغر، وفتح له أبواب الاكتشاف مبكرًا.
نشأته وسط مكتبة أبيه، واهتمامه المبكر بالطبيعة والتشريح، نمّيا فيه حب الاستكشاف، خاصة في مجالات العلوم الطبيعية. وفي سنٍ مبكرة، بدا واضحًا ميله نحو الكيمياء والطب، مسارات ستتلاقى لاحقًا في عمله العلمي الأبرز.
التعليم وبداية التكوين المهني
التحق فيشر بجامعتي لوزان وماربورغ لدراسة الطب والكيمياء، ثم تابع دراسته العليا في الكيمياء العضوية بجامعة ميونيخ، حيث حصل على درجة الدكتوراه في عام 1904.
كان تأثره واضحًا بأساتذته في ميونيخ، خاصة البروفسور إميل فيشر (الذي لا تربطه به صلة قرابة مباشرة)، وقد ساهمت هذه الفترة في صقل أدواته البحثية، وبناء مشروعه العلمي الطويل.
الانطلاقة المهنية والتحديات الأولى
بعد نيله الدكتوراه، بدأ فيشر العمل في معهد التشريح المرضي، حيث جذبته فكرة دراسة الصبغات الحيوية، خصوصًا البورفيرينات، وهي المركبات التي تدخل في تكوين الهيموغلوبين والكلوروفيل.
كانت بداية القرن العشرين زمنًا تتصارع فيه المدارس العلمية في فهم بنية الدم والنبات، فواجه فيشر تحديًا كبيرًا في إثبات صحة فرضياته حول تركيب هذه الجزيئات المعقدة، في وقت لم تكن فيه الأدوات التحليلية متطورة كما هي اليوم.
الجدول الزمني المبسّط لانطلاقته:
| السنة | المرحلة | الملاحظات |
|---|---|---|
| 1904 | نيل الدكتوراه | جامعة ميونيخ |
| 1908 | بداية أبحاث البورفيرين | معهد التشريح |
| 1921 | أستاذ بجامعة ميونيخ | تخصص الكيمياء الحيوية |
| 1930 | جائزة نوبل | عن أبحاثه في الهيمين والكلوروفيل |
الإنجازات الرئيسية والأثر العالمي
اكتشاف التركيب الكيميائي للهيمين
ركز فيشر أبحاثه على الهيمين، وهو مكون أساسي في الهيموغلوبين، الذي ينقل الأكسجين في دم الإنسان. وبعد سنوات من التجارب الدقيقة، تمكّن من تحديد التركيب الكيميائي الكامل للهيمين، وهو إنجاز وصفه المجتمع العلمي حينها بـ”الثوري”.
“من خلال فيشر، تعرّف العلم على البنية الحقيقية للصبغة التي تجعل الدم أحمر والحياة ممكنة.” — أوتو هاينريش واربورغ
كما امتدّت أبحاثه لتشمل الكلوروفيل، الصبغة الخضراء في النباتات، مما أظهر أوجه التشابه البنيوي المذهل بين دم الإنسان و”دم النبات”.
تأثيره العلمي
قبل فيشر، لم يكن تركيب الهيمين مفهومًا بدقة. بعده، أصبح أساسًا للعديد من أبحاث الطب الحيوي، وزادت تطبيقاته في أبحاث الدم، والأدوية، والتغذية، وزراعة الأعضاء.
التكريمات والجوائز الكبرى
أبرز تتويج لمسيرته كان جائزة نوبل في الكيمياء عام 1930، “تقديرًا لأبحاثه في تركيب الهيمين والكلوروفيل”.
جوائز أخرى:
- وسام ليو ليوبولد
- عضوية في الأكاديمية الألمانية للعلوم
- أستاذية فخرية بجامعة فيينا
حظي فيشر بتقدير واسع في الأوساط العلمية، واعتُبر مرجعًا عالميًا في الكيمياء العضوية الحيوية.
التحديات والمواقف الإنسانية
رغم نجاحاته العلمية، عاش فيشر تحديات إنسانية قاسية:
- خلال الحرب العالمية الثانية، عانى من اضطهاد النظام النازي بسبب آرائه السياسية ومواقفه الأخلاقية.
- انتحر في 31 مارس 1945، بعد أن دُمر منزله ومختبره، وقُتل ابنه في الحرب، مما ألقى عليه ظلًّا من اليأس في أيامه الأخيرة.
“لقد كرّس حياته للعلم… حتى عندما دمّرت الحرب كل شيء حوله، ظل قلبه مؤمنًا بالمعرفة، لكنها لم تنقذه من الجراح.” — من خطاب تأبينه
الإرث والتأثير المستمر
ما زالت إنجازات هانس فيشر تؤثر في الطب والصيدلة وعلوم البيئة:
- تُستخدم أبحاثه كأساس لتطوير أدوية مضادة للأنيميا.
- بنية الكلوروفيل التي كشف عنها ساعدت في تحسين تقنيات التمثيل الضوئي الصناعي.
- أعطى الكيمياء الحيوية بُعدًا إنسانيًا، إذ ربطها بالحياة اليومية.
أعماله مرجع ثابت في كتب الكيمياء حتى اليوم، ويُنسب إليه تأسيس علم الكيمياء العضوية الحيوية الحديثة.
الجانب الإنساني والشخصي
كان فيشر إنسانًا بسيطًا، متواضعًا، ينفر من الشهرة. عُرف عنه اهتمامه العميق بطلابه، ورعايته للمواهب الشابة، وتشجيعه الدائم على التفكير النقدي.
مبادراته:
- ساهم في إنشاء مختبرات أبحاث مجانية للطلبة ذوي الدخل المحدود.
- دعم العلماء المهاجرين خلال الحرب.
“المعرفة دون أخلاق لا تصنع عالمًا أفضل، بل فقط عالِمًا بارعًا.” — هانس فيشر
الخاتمة: دروس من حياة هانس فيشر
حياة هانس فيشر تذكرنا بأن العبقرية لا تُقاس بعدد الأوراق العلمية فقط، بل بالقدرة على تحويل المعرفة إلى قوة إنسانية تخدم البشرية.
من خلية دم إلى ضوء شمس، من مختبر إلى جائزة نوبل، قدّم فيشر درسًا خالدًا:
“الاستثمار في المعرفة يحقق أفضل عائد.”
قصة فيشر هي تذكير بأن العلم نورٌ… لكنّه يحتاج قلبًا لينير العالم.



