هاينريش فيلاند: كيميائي الأحماض الصفراوية وصوت الضمير في زمن الحرب

المقدمة: افتتاحية تشدّ الأنفاس
في ليلة صيفية من عام 1928 في ستوكهولم، وقف العالم الألماني هاينريش أوتو فيلاند على منصّة التكريم لاستلام جائزة نوبل في الكيمياء. لحظة يسطع فيها علم الإنسان، لحظة يتلألأ فيها هيثم المعرفة في سماء الأمل الإنساني. كانت تلك الجائزة اعترافًا بجهوده الجبّارة في كشف أسرار الأحماض الصفراوية (bile acids) وبناء جسر بين الكيمياء وعلم الأحياء. من النشأة في بلدة صغيرة إلى أصداء الخلود العلمي، نسافر في هذه المقالة مع حياة هاينريش فيلاند، ونستلهم منه قصة نجاح تشع بالألوان.
النشأة والتكوين
ولد فيلاند في 4 يونيو 1877 في مدينة بورزشهايم (Pforzheim) في جنوب ألمانيا . ترعرع في عائلة ذات جذور دراسية وثقافية، فوالده كان كيميائيًا ومالكًا لمصنعٍ معدني، مما جعل البيئة المحيطة به مثقلة بالعلم والتجربة . منذ نعومة أظافره، تفتّحت عيناه على عوالمٍ مخبرية وغموضٍ علمي، فتعلّق قلبه برائحة الأكوام الكيميائية.
التعليم وبداية التكوين المهني
في عام 1896، بدأ دراسته الجامعية في جامعة ميونخ، ثم انتقل لاحقًا إلى جامعات برلين وستوتغارت . في عام 1901، حصل على درجة الدكتوراه بإشراف يوهانس ثيلي، وقد كان في الثانية والعشرين من عمره .
تابع بعد ذلك مسيرته الأكاديمية: حصل على “habilitation” عام 1905، ثم أصبح أستاذًا مساعدًا في ميونخ عام 1909، وعمل مستشارًا لمؤسسة Boehringer Ingelheim للصناعة الدوائية .
الانطلاقة المهنية والتحديات الأولى
من 1913 إلى 1921، عمل فيلاند أستاذًا في المعهد التقني في ميونخ، ثم انتقل إلى جامعة فرايبورغ حيث أمضى أربع سنوات وصفها بأكثرها متعة في حياته العلمية .
جدول زمني مبسّط:
السنة | المحطة |
---|---|
1901 | حصوله على الدكتوراه في ميونخ |
1905–1909 | habilitation وتعيينه أستاذًا مساعدًا |
1913–1921 | تدريسه في المعهد التقني بميونخ |
1921–1925 | أستاذ في جامعة فرايبورغ |
1925–1950/52 | شغل كرسي Liebig‑Baeyer في ميونخ |
خلال الحرب العالمية الأولى (1914–1918)، تم استدعاؤه للعمل في معهد كايزر فيلهلم في برلين، حيث شارك في أبحاث علمية متعلقة بالحرب، بما في ذلك طرق صناعية لإنتاج الغازات السامة والسّام Adamsite .
الإنجازات الرئيسية والأثر العالمي
في السنوات التالية، انكبّ فيلاند على دراسة الأحماض الصفراوية (bile acids)، ونجح في عزل ثلاثة أنواع، وكشف أنها عبارة عن مركبات ستيرويدية ذات ترابط وثيق مع الكوليسترول (cholesterol) . وأسهم هذا الاكتشاف بشكل كبير في فهم تركيبة الستيرويدات ودورها في الجسم.
كما لاحظ فيلاند أن الأكسدة في أنسجة الكائنات الحية لا تكون نتيجة إضافة الأكسجين، بل عبر نزع ذرات الهيدروجين (dehydrogenation)، وهو مفهوم أساسي في البيوكيمياء وعلم وظائف الأعضاء .
يبقى الإنجاز الأبرز له: جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1927، والتي حصل عليها فعليًا في عام 1928، تقديرًا لعمله الحاسم في فهم بنية الأحماض الصفراوية .
التكريمات والجوائز الكبرى
إلى جانب جائزة نوبل، حصل فيلاند على عدة تكريمات مرموقة: كان عضواً في أبرز الجمعيات العلمية العالمية، تقلّد وسام الاستحقاق، وجائزة أوتو هان (Otto Hahn Prize)، كما بادر بتحرير المجلة الشهيرة Justus Liebigs Annalen der Chemie لأكثر من عقدين .
التحديات والمواقف الإنسانية
وقف فيلاند بحزم ضد قوى النازية في ألمانيا. رغم المخاطر، وظّف في مختبره طلاباً يهودًا ومن أنصار حركة المقاومة “الوردة البيضاء” (White Rose)، ودافع عنهم في المحاكم . هذا الموقف يعكس جانبًا إنسانيًا قلّما نشاهد مثله في زمن الظلم العلمي والسياسي.
الإرث والتأثير المستمر
ظلّ إرثه العلمي حيًّا بعد وفاته في 5 أغسطس 1957 (عن عمر ناهز الثمانين) . كما أُنشئت بعد ذلك “جائزة هاينريش فيلاند” (Heinrich Wieland Prize)، تكريمًا للرؤى المبتكرة في الكيمياء والبيوكيمياء والطب، ويُعتبر من أبرز الجوائز البحثية في الحياة والعلوم الطبية .
الجانب الإنساني والشخصي
تزوج فيلاند عام 1908 من جوزفين بارتمان (Josephine Bartmann)، وكانت علاقة حب صافية تشتهر بها حياته الخاصة . أنجبا ثلاثة أبناء: وولفغانغ (طبيب صيدلاني)، ثيودور (أستاذ كيمياء في جامعة فرانكفورت)، وأوتو (أستاذ طب في جامعة ميونخ)، وابنة واحدة إيفا، التي ارتبطت بـFeodor Lynen، الحاصل على نوبل في الطب عام 1964 .
عكست حياته توازنًا بين الكفاح العلمي والإنسانية الرقيقة: “حكم حياته بالجد والعمل… لكنه لم ينسَ الحب والطيبة تجاه طلابه وعائلته” .
الخاتمة: دروس ملهمة من حياة فيلاند
قصة سيرة هاينريش فيلاند ليست مجرد فصل في تاريخ الكيمياء، بل هي رحلة إنسانية غنية تعلّقنا بالصبر، والشجاعة، والحرص الأكاديمي، والصلابة الأخلاقية. لقد بدأ من بيئة علمية بسيطة، وتحدّى سيول العنف والكراهية، وبقي وفيا لمبادئ العلم والعدالة. من اكتشاف الأحماض الصفراوية إلى تأسيس فهم بيولوجي للأكسدة، ومن الوقوف في وجه النازية إلى إلهام أجيال علماء المستقبل.
إننا نتعلّم منه أن العلم لا يُبنى فقط بالتجربة والأنظمة الجزيئية، بل بالأخلاق والرحمة وإعلاء كرامة الإنسان. تلك هي الدروس التي تجعل من “سيرة هاينريش أوتو فيلاند” قصة نجاح وأمل وإنسانية متجددة.