وهم الطيبة: بين أقنعة النور وظلال الذات

في عالمٍ يتغنى باللطف، ويقدّس الطيبة، ويتعامل مع الأخلاق كعملة اجتماعية رابحة، تأتي الكاتبة أندريا ماثيو لتلقي حجرًا في بركة هذا الصفاء المصطنع. “وهم الطيبة: ظلماتك خلف الضوء وحقيقتك خلف القناع” هو أكثر من مجرد كتاب تنمية بشرية، بل هو رحلة غوص في قاع النفس، حيث تختبئ النوايا، وتتوارى الرغبات، وتنقلب الطيبة من فضيلة إلى أداة قمع ذاتي.
نبذة عن المؤلفة والكتاب
أندريا ماثيو، خبيرة في علم النفس الإرشادي والعلاج النفسي العميق، تمزج في هذا الكتاب بين خبرتها السريرية، وتأملاتها الفلسفية، ولغتها التحليلية المتّقدة. صدر كتابها عام 2023 ليأخذ مكانه بسرعة ضمن قائمة الكتب التي تُناقش تطوير الذات والعلاقات، ولكن بأسلوب مغاير تمامًا عن الطرح الإيجابي السطحي المعتاد.
الكتاب لا يدعونا إلى أن نكون “أفضل” ولا “ألطف”، بل يسائل دوافعنا الحقيقية:
هل نكون طيبين حقًا، أم أننا نرتدي قناع الطيبة لأننا نخاف من الرفض؟
هل نتسامح لأننا نحب، أم لأننا لا نجرؤ على المواجهة؟
الطيبة كقناع اجتماعي
أحد أكثر المفاهيم المحورية التي تُطارد القارئ من أول فصل إلى آخره هو فكرة أن “الطيبة” – كما تُمارس غالبًا – ليست فعلًا نقيًا، بل قناعًا. تُشبّه ماثيو الطيبة بـ”قشرة شفافة تغلف جروح الطفولة”، حين تعلمنا أن نكبت الغضب، ونتجاوز الإهانة، ونُرضي الجميع كي لا نخسر حبّهم أو احترامهم.
“نُربّى على أن الطيب محبوب، والغاضب مرفوض. لكن لا أحد يشرح لنا أن قمع الغضب لا يصنع الطيبة، بل ينحت إنسانًا هشًا.” – أندريا ماثيو
الكتاب يفكك هذه الفرضية قطعةً قطعة، ويطرح أسئلة موجعة:
- هل تقبّلك للآخرين فعل حقيقي أم خضوع؟
- هل مسامحتك للذين جرحوك نابعة من تعاطف، أم خوف من المواجهة؟
- هل تبذل من أجلهم لأنك تحبهم، أم لأنك تخاف أن يُترَك جانبك فارغًا؟
ظلمات خلف الضوء
في فصلٍ عميق بعنوان “منطقة الظل”، تستحضر ماثيو مفهومًا يونغيًّا أصيلًا: الظل النفسي – ذلك الجانب منّا الذي نخجل به، فننفيه وندفنه، بينما يطلّ برأسه في لحظات الانهيار أو الاندفاع. وتزعم أن كثيرًا من “الطيبة” ليست سوى محاولة يائسة لإبقاء هذا الظل تحت السيطرة.
“الطيبة التي لا تنبع من وعي الظل، ليست إلا إنكارًا للصراع.” – من الكتاب
ترى الكاتبة أن التوازن النفسي الحقيقي لا يأتي من إنكار هذه الظلمات، بل من الاعتراف بها، واحتوائها، ودمجها ضمن شخصيتنا. الطيبة الحقيقية لا تعني أن نكون بلا غضب، بل أن نعرف كيف نوجه الغضب دون أن نُؤذي أو نُهين.
تحليل نفسي وسلوكي للأقنعة
الكتاب يستخدم أدوات علم النفس التحليلي لفهم لماذا نرتدي أقنعة الطيبة. تشير ماثيو إلى خمسة دوافع رئيسية:
- الخوف من الرفض
نتصرف بلطف مبالغ فيه لأننا نخشى أن يُقال عنا أننا قساة أو أنانيون. - الشعور بالذنب
نحاول إصلاح الآخرين وتحمّل عبء العالم لنتخلّص من ذنب تربينا عليه. - التهرب من المواجهة
نُغرق أنفسنا في التسامح لأن قول “لا” يُشعرنا بالذنب. - الرغبة في القبول
نُبالغ في المثالية طمعًا في رضا الناس وتقديرهم. - الشعور بالنقص
نعتقد أننا يجب أن نُثبت “استحقاقنا للحب” عبر التضحية المفرطة.
هذه الدوافع، بحسب الكاتبة، لا تنتج شخصًا طيبًا بالمعنى الحقيقي، بل تنتج إنسانًا مفككًا، يشعر بالمرارة، ويُعاني من الإنهاك النفسي.
من الطيبة إلى التكامل
التحوّل الحقيقي، كما توضحه المؤلفة، لا يكون بنبذ الطيبة، بل بإعادة تعريفها. تدعو القارئ إلى رحلة شجاعة داخل الذات:
- أن تُدرك أن الحق في الغضب لا يُنقص من إنسانيتك.
- أن تتعلم أن تقول “لا” دون أن تشعر بالذنب.
- أن تُفرّق بين التضحية من القلب، والإنكار للذات.
- أن تقبل ظلالك وتتصالح معها.
الطيبة المتكاملة، وفق ماثيو، تبدأ من الداخل، لا من ردود أفعال الآخرين.
أسلوب الكتاب: دمج العيادي بالروحي
الكتاب لا يقتصر على التحليل النفسي الجاف، بل يتنقل برشاقة بين:
- أمثلة واقعية من جلسات علاجية.
- تأملات روحية مستمدة من حكمة الشرق القديم.
- تمارين وعي ذاتي في نهاية كل فصل.
- اقتباسات فلسفية وأدبية تربط بين الفكرة والسياق الثقافي العام.
هذا الدمج يُضفي على الكتاب طابعًا شاملًا، حيث يُخاطب القارئ فكريًا وعاطفيًا وروحيًا في آنٍ واحد.
علاقاتنا تحت المجهر
من أبرز الفصول التي تستحق الوقوف عندها: “الطيبة في العلاقات السامة”. تقول ماثيو:
“الطيبة الزائفة لا تُنقذ العلاقة، بل تُطيل عمر الخداع المتبادل.”
تكشف الكاتبة كيف يمكن للإنسان أن يُستخدم، ويُستنزف، ويُستعبد نفسيًا، باسم الطيبة. وتعرض نماذج من الحياة اليومية:
- أمّ تمنع نفسها من المواجهة مع أبنائها خوفًا من فقدان محبتهم.
- صديق يعطي بلا حدود رغم شعوره بالإهمال.
- زوجة تخاف من قول الحقيقة حتى لا تُتهم بعدم الوفاء.
وتقترح أدوات لفك الارتباط العاطفي المشروط، وبناء علاقات على أساس الاحترام المتبادل لا التنازلات المستمرة.
دعوة للصدق الداخلي
في خاتمة الكتاب، تُطلق أندريا ماثيو نداءً جريئًا:
“كُن صادقًا مع نفسك، حتى لو خذلك الآخرون. فخسارة زيفك أربح من خسارة ذاتك.”
الرسالة النهائية ليست أن نتخلى عن اللطف، بل أن نُمارسه من موقع القوة، لا من موقع الخوف. أن نُحب بصدق، لا بدافع الحاجة. أن نغفر بقوة، لا من ضعف. أن نُظهر نورنا الحقيقي، حتى لو كشف بعض الظلمات.
تقييم نقدي للكتاب
✅ نقاط القوة:
- معالجة غير تقليدية لمفهوم الطيبة.
- أسلوب بسيط وعميق، يجمع بين النفساني والفلسفي.
- فصول مترابطة، مدعومة بأمثلة واقعية.
- قدرة عالية على طرح الأسئلة الصادمة والجوهرية.
❗نقاط قد تُؤخذ عليه:
- يُمكن أن يكون صادمًا للبعض، خصوصًا من نشأوا في بيئات تقدّس الطيبة كقيمة عليا دون مساءلة.
- لا يقدم حلولًا سريعة، بل يكتفي بإثارة الوعي وتحفيز البحث الذاتي.
في الختام: من الطيبة إلى الأصالة
“وهم الطيبة” ليس كتابًا مريحًا، بل هو مرآة قد تعكس وجوهًا لم نرغب برؤيتها. لكنه أيضًا من الكتب التي تُحدث نقلة وعي حقيقية في مسار الإنسان، من شخص يسعى لإرضاء الجميع إلى شخص يُرضي ذاته أولًا، دون أن يفقد إنسانيته.
الطيبة الحقيقية، كما تقول أندريا ماثيو، لا تُخفي الظلام، بل تنبثق منه.
لمعرفة المزيد: وهم الطيبة: بين أقنعة النور وظلال الذات