وولتر هاوَرث: كيميائيٌ أعاد للعالم حلاوة السكر… ووهج الفيتامينات

المقدمة: حين يتحول الكيمياء إلى غذاء للحياة
في زمنٍ كانت فيه الكيمياء حبيسة المختبرات والنظريات الجافة، برز عالم إنجليزي من مانشستر اسمه وولتر هاورث ليعيد تعريف هذا العلم؛ لا كمجرد معادلات على ورق، بل كوسيلة لحماية الصحة البشرية وتحسين جودة الحياة.
إنه الرجل الذي رسم البنية التركيبية للسكريات، وأسهم في فك شيفرة فيتامين C، فحاز على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1937، وخلّد اسمه في صفحات الطب والصناعة معًا.
في هذه السيرة، نبحر معًا في رحلة عقل وضمير، لرجلٍ علمنا كيف يمكن للعلم أن يكون شغفًا… ورسالةً.
النشأة والتكوين: من أزقة لانكشير إلى أبواب المختبر
وُلد وولتر نورمان هاوَرث (Walter Norman Haworth) في 19 مارس 1883، في مدينة وايتن، لانكشير، شمال غرب إنجلترا، في كنف عائلة متواضعة يعمل والدها في صناعة الزجاج.
منذ صغره، بدا شغوفًا بالعلوم الدقيقة، يهوى رسم الأشكال الهندسية ويتأمل تركيب الأشياء من حوله، وهو ما دفعه للاهتمام المبكر بالكيمياء، حيث كان يجري تجاربه الأولى من أدوات منزلية بسيطة.
ورغم محدودية الموارد، وفّر له والده الكتب والمجلات العلمية، فكان منزلهم البسيط مدرسة لا تقل عمقًا عن أروقة الجامعات.
التعليم وبداية التكوين المهني: معادلة الطموح والتخصص
التحق هاورث بـجامعة مانشستر حيث درس الكيمياء، وتأثر بأساتذته الكبار في مجالات الكيمياء العضوية، ثم واصل دراساته العليا في جامعة غوتينغن الألمانية، إحدى أبرز مراكز البحث في العالم آنذاك، وتعلم على يد كبار الكيميائيين الألمان.
عُرف بين زملائه بدقة ملاحظته، وحرصه على التجريب العملي أكثر من التنظير، حتى لقّبه أستاذه بـ”العالم البصري”، لقدرته على “رؤية” بنية المواد قبل إثباتها بالمجهر أو الورقة.
الانطلاقة المهنية والتحديات الأولى: من المحاليل إلى المجد
بعد عودته إلى إنجلترا، بدأ هاورث العمل كأستاذ محاضر في جامعات عدة، أهمها جامعة سانت أندروز، وجامعة برمنغهام لاحقًا، حيث أمضى الجزء الأكبر من مسيرته.
في تلك المرحلة، واجه تحديات عدة أبرزها قلة الموارد البحثية، ومحدودية الإمكانيات التقنية. لكن إيمانه العميق بالبحث العلمي كأداة للخدمة العامة كان أقوى من أي عقبة.
جدول زمني مبسط:
العام | الحدث |
---|---|
1883 | ولادته في لانكشير |
1903 | تخرّجه من جامعة مانشستر |
1920 | أستاذ في جامعة برمنغهام |
1933 | تحديد البنية التركيبية لفيتامين C |
1937 | حصوله على جائزة نوبل |
الإنجازات الرئيسية والأثر العالمي: سكر الحياة وفيتامين الشفاء
السكريات… بين التبسيط والتعقيد
كان أعظم ما قدمه هاورث في بداياته هو تفسير التركيب البنيوي للسكريات مثل الغلوكوز والمالتوز، إذ صاغ أول نموذج ثلاثي الأبعاد لبنيتها الحلقية، في ما أصبح يُعرف لاحقًا بـإسقاط هاورث (Haworth Projection)، وهي طريقة لرسم السكريات لا تزال تُدرّس حتى اليوم في كتب الكيمياء.
“حين نفهم كيف تبني الطبيعة السكر، نفهم كيف تبني الحياة.” – هاورث
فيتامين C: ثورة علمية بلباس إنساني
في ثلاثينيات القرن العشرين، كان مرض الإسقربوط لا يزال يحصد الأرواح، خاصة بين البحّارة، بسبب نقص فيتامين C.
تعاون هاورث مع العالم المجري ألبرت سنت-جيورجي لتحديد البنية الكيميائية لفيتامين C، وتمكّنا معًا من تصنيعه مخبريًا لأول مرة في التاريخ.
بذلك، تمكّن الأطباء من توفيره كمكمل غذائي، وبدأت صناعة المكملات والفيتامينات في اتخاذ مسار جديد، أنقذ حياة الملايين.
التكريمات والجوائز الكبرى: حين يتحدث نوبل
حصل وولتر هاورث على جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1937 مناصفةً مع سنت-جيورجي، تقديرًا لأعماله حول السكريات وفيتامين C.
كما حصل على وسام الإمبراطورية البريطانية، وكرّمته الجمعيات الكيميائية في بريطانيا وأمريكا، وانتُخب زميلًا في الجمعية الملكية البريطانية.
“لم تكن جائزة نوبل تتويجًا لإنجازي فقط، بل كانت تأكيدًا أن الكيمياء يمكنها أن تلمس القلوب قبل الأجساد.” – هاورث، في خطاب التكريم
التحديات والمواقف الإنسانية: العالم الذي لم ينسَ الناس
رغم انشغاله بالأبحاث، لم يكن هاورث منطويًا على ذاته. خلال الحرب العالمية الثانية، تطوّع للمساهمة في إنتاج مركبات طبية للمصابين، وعمل مع فرق بحثية لتطوير مضادات حيوية.
كان يؤمن بأن على العلماء أن يشاركوا في مواجهة الكوارث لا أن يختبئوا منها، ووقف في وجه محاولات استغلال الكيمياء لأغراض عسكرية، مناديًا باستخدامها فقط “لعلاج لا لقتل”.
الإرث والتأثير المستمر: أثرٌ لا يُمحى
حتى اليوم، لا تخلو أي جامعة في العالم من تدريس “إسقاط هاورث” لطلاب الكيمياء. كما أن اكتشافه لفيتامين C لا يزال حجر أساس في الطب والتغذية والوقاية من الأمراض.
أُطلق اسمه على مراكز بحثية في بريطانيا، ووُضعت صوره على طوابع بريدية علمية.
“إنجازات وولتر هاورث” غيّرت طريقة تفكيرنا في الكيمياء بوصفها علماً يخدم الإنسان، لا مجرد تركيبات في قوارير زجاجية.
الجانب الإنساني والشخصي: هدوء العلماء الكبار
كان هاورث محبًا للطبيعة والمشي في الريف الإنجليزي. عرف بحياته المتواضعة، ورفض عروضًا مالية ضخمة من شركات أدوية لاستغلال أبحاثه تجاريًا.
اهتم بالتعليم المجاني، وأسهم في دعم برامج تعليم العلوم في المدارس، خاصة في المناطق الفقيرة.
“لم أدرس الكيمياء كي أصنع أموالًا… بل لأفهم كيف تنبض الحياة.” – وولتر هاورث
الخاتمة: ما الذي يمكن أن نتعلمه من وولتر هاورث؟
في زمنٍ يركض نحو الجديد بلا توقف، تذكّرنا سيرة وولتر هاورث أن العلم لا يُقاس بعدد الأوراق البحثية، بل بعدد الأرواح التي يلامسها.
هو رجلٌ عاش ببساطة، وفكّر بعمق، وترك خلفه خريطة لفهم الحياة على المستوى الذري، وجسرًا يربط بين المختبر والإنسان.
علّمنا أن الكيمياء يمكن أن تكون قصيدة، إذا كُتبت بنيّة طيّبة، وأن الإنجاز لا يُقاس بعلو الكرسي، بل بعمق الأثر.