يوجين أونيل: سيد التراجيديا الأمريكية وصوت الإنسان المنكسر

البداية: إشعال الفضول
في غرفة فندق بمدينة نيويورك، وُلد حلم صغير سيغير مجرى المسرح الأدبي إلى الأبد؛ يوجين غلادستون أونيل، الذي نال جائزة نوبل في الأدب عام 1936، ثم أصبح أول وأعظم أديب أمريكي درامي. إنجاز نوبل هذا لم يكن مجرد تتويج لمسيرة أدبية، بل اعترافًا عالميًا بقوة صراحته وصدق أحاسيسه ومأساوية رؤيته التي أعادت تعريف التراجيديا في الأدب الغربي. فكيف تعلّمت تلك الكلمات أولى خطواتها؟ وكيف تحوّل صخب الفندق إلى مسرحيات خالدة؟ دعنا نخوض في أعماق قصة رجلٍ لا يُنسى.
النشأة والطفولة: ملامح التكوين
وُلد يوجين أونيل في 16 أكتوبر 1888 في نيويورك سيتي، وسط حياة متنقّلة مستمرة في فنادق أمريكا. والده، الممثل جيمس أونيل، كان يؤدي دور الكونت مونتي كريستو، وأمه إيلا كانت تعاني من الإدمان على المورفين بعد ولادته، مما ترك آثارًا نفسية عميقة عليه، انعكست لاحقًا في أعماله المسرحية.
في طفولته، التحق بمدارس كاثوليكية صارمة، وانتقل بين المدن بشكل مستمر بسبب عمل والده. هذا التشتت زرع فيه بذور الانعزال، وجعل من المسرح وسيلته لفهم العالم والبوح بمشاعره.
التعليم والمسار الأكاديمي: خطوات نحو القمة
التحق أونيل بجامعة برينستون في عام 1906، لكنه طُرد منها بعد عام فقط. بعد ذلك خاض حياة مليئة بالمغامرات: عمل بحارًا على متن السفن، وسافر إلى الأرجنتين وهندوراس، وتعرض للإدمان والمرض، إلى أن أُدخل مصحّة لعلاج مرض السل عام 1912، وهناك بدأت تتبلور موهبته الأدبية.
في عام 1914، التحق بدورة في الكتابة المسرحية بجامعة هارفارد، حيث درس تحت إشراف الأستاذ الشهير جورج بيكر، وتعرّف على مبادئ الدراما الواقعية التي أثّرت كثيرًا في أسلوبه.
الانطلاقة المهنية: أولى خطوات التأثير
في عام 1916، عرضت أولى مسرحياته “Bound East for Cardiff” على مسرح مجموعة Provincetown Players، وبدأت ملامح عبقريته تتجلى بوضوح. لم يكن أونيل يكتب للترفيه، بل ليحفر في جراح الروح، وليقدم صورة صادقة عن الإنسان الأمريكي الممزق بين الحلم والواقع.
المحطات الرئيسية:
السنة | المسرحية / الحدث |
---|---|
1916 | أول مسرحية تُعرض: Bound East for Cardiff |
1920 | Beyond the Horizon – جائزة بوليتزر الأولى |
1922 | Anna Christie – بوليتزر الثانية |
1928 | Strange Interlude – بوليتزر الثالثة |
1936 | جائزة نوبل في الأدب |
1956 | عرض Long Day’s Journey into Night – بعد وفاته، نالت بوليتزر الرابعة |
الإنجازات الثورية: التغيير الحقيقي
أحدث أونيل ثورة في المسرح الأمريكي، حيث:
- أدخل اللغة اليومية إلى المسرح بدلًا من الخطاب المزخرف.
- كتب عن شخصيات مهمّشة مثل البحّارة، المدمنين، النساء المعذبات، والمهاجرين.
- استخدم تقنيات جديدة كالمونولوجات الداخلية، واللاوعي، والزمان المتداخل.
أبرز أعماله:
- Beyond the Horizon (1920): مسرحية عن إخفاق الحلم الأمريكي، نالت جائزة بوليتزر.
- The Iceman Cometh (1939): دراما سوداوية عن الأمل الكاذب.
- Long Day’s Journey into Night (كتبها 1941، نُشرت 1956): سيرته الذاتية الدرامية، وأحد أعظم الأعمال في تاريخ المسرح.
“أريد أن أكون فنانًا… أو لا شيء.” – يوجين أونيل
لحظة نوبل: القمة المنتظرة
في عام 1936، منحته الأكاديمية السويدية جائزة نوبل في الأدب “لقوته الدرامية، وصدقه العاطفي، وقدرته الفريدة على خلق تراجيديا أميركية أصيلة”. كان أول كاتب مسرحي أمريكي يفوز بالجائزة، مما منح المسرح الأمريكي شرعية عالمية.
رغم المرض، لم يحضر أونيل الحفل، لكنه أرسل خطابًا عبر فيه عن امتنانه وتأثره، وخص بالذكر الكاتب السويدي أوغست ستريندبرغ كأحد مصادر إلهامه.
التحديات والإنسان وراء العبقرية
عانى أونيل من:
- إدمان الكحول في شبابه.
- أزمات عائلية متكررة، منها انتحار ابنه “شين”.
- مرض عصبي خطير جعله غير قادر على الكتابة بيده في سنواته الأخيرة.
ورغم كل ذلك، ظل يكتب حتى النهاية، عبر الإملاء أو تسجيل الأفكار بصعوبة. لم تكن الحياة رحيمة معه، لكنها شكّلت عبقريته.
الجوائز والإرث: ما تركه للعالم
- جائزة نوبل في الأدب (1936)
- 4 جوائز بوليتزر (1920، 1922، 1928، 1957)
- كتب أكثر من 50 مسرحية
- أثر في أجيال من الكتّاب والمخرجين مثل آرثر ميلر وتينيسي ويليامز
يُعتبر أونيل مؤسس المسرح الأمريكي الحديث، ومن أوائل من جعلوا المسرح الأمريكي ينافس الأدب العالمي في العمق والجرأة.
الجانب الإنساني: روح خلف الإنجاز
كان أونيل يكتب ليفهم الإنسان، ويؤمن أن الألم هو جوهر التجربة الإنسانية. لم يسعَ للشهرة، بل للصدق. كانت فلسفته في الحياة قائمة على الصراع، والمواجهة، والتطهر من خلال المعاناة.
رغم شهرته، عاش متواضعًا، بعيدًا عن الأضواء، منعزلًا في منزله في كاليفورنيا، حيث كتب معظم أعماله الكبرى.
ما بعد نوبل: الاستمرار أو الخلود
بعد نوبل، واصل الكتابة رغم تدهور صحته. كتب مسرحياته الأخيرة مثل:
- The Iceman Cometh (1939، عُرضت 1946)
- Long Day’s Journey into Night (أعظم أعماله، نُشرت بعد وفاته)
توفي يوجين أونيل في 27 نوفمبر 1953 في بوسطن، وقد نُقش على قبره إحدى عباراته: “ولدت في غرفة فندق، وسأموت في غرفة فندق.” – وهذا ما حدث فعلًا.
الخاتمة: أثر خالد
سيرة يوجين أونيل ليست فقط عن جوائز ونجاحات، بل عن صراع إنساني عميق مع الذات والعالم. كان أديبًا كشف الظلام ليضيء المسرح، وصوتًا للمعاناة والصدق. إرثه لا يزال حيًّا في المسارح والجامعات، وأعماله تُدرّس وتُعرض حول العالم حتى اليوم.
قصته تُلهم كل من يبحث عن معنى في الألم، وعن جمال في الصدق، وعن نور في العتمة.