سيرة بيرسي و. بريدجمان: رائد الضغوط العالية وملهم الفكر العلمي

المقدمة: من رجل عادي إلى عبقري غيّر الفيزياء
في أحد أيام شهر أبريل من عام 1882، وُلد طفل في مدينة كامبريدج بولاية ماساتشوستس الأمريكية، لم يكن أحد يتوقع أن يصبح لاحقًا واحدًا من أبرز علماء الفيزياء في القرن العشرين. ذلك الطفل هو بيرسي و. بريدجمان (Percy Williams Bridgman)، الرجل الذي لم يكتفِ بقراءة قوانين الطبيعة، بل كسر حدودها باختراعاته وتجارب الضغوط العالية، حتى نال جائزة نوبل في الفيزياء سنة 1946.
قصة بريدجمان ليست مجرد سيرة عالم، بل هي حكاية كفاح، وانضباط، وفكر فلسفي عميق عن معنى العلم وحدوده.
النشأة والتكوين: بدايات في بيت المعرفة
وُلد بريدجمان في 21 أبريل 1882 في مدينة كامبريدج، وهي بيئة غنية بالعلم والثقافة نظرًا لقربها من جامعة هارفارد. نشأ في أسرة متوسطة الحال، اهتمت بالتعليم والمعرفة، حيث كان والده موظفًا في مجال المطبوعات، ووالدته ذات ميول أدبية.
منذ طفولته، أبدى الصبي اهتمامًا بالأجهزة الميكانيكية البسيطة. كان يُفكك الألعاب، ويعيد تركيبها ليكتشف كيف تعمل. هذه النزعة الاستقصائية لم تكن مجرد فضول عابر، بل نواة عقل فيزيائي سيعيد لاحقًا تعريف حدود التجريب العلمي.
التعليم وبداية التكوين المهني
دخل بريدجمان جامعة هارفارد، حيث درس الفيزياء والرياضيات. حصل على درجة البكالوريوس عام 1900، ثم أكمل الماجستير، وأخيرًا الدكتوراه عام 1908.
كان متأثرًا بأساتذة بارزين في هارفارد، أبرزهم الفيزيائي يوجين كيمبال، الذي شجعه على البحث العميق وعدم الاكتفاء بالمعرفة النظرية.
لم يكن طالبًا عاديًا؛ فقد اشتهر بين زملائه بدقته الشديدة وميله للتجارب المعملية أكثر من الجدل النظري. ومنذ سنوات دراسته الأولى، بدأ يفكر في مشكلة ستقوده إلى مجد علمي كبير: كيف يمكن للعلماء دراسة المواد تحت ضغوط هائلة تفوق قدرة الأدوات التقليدية؟
الانطلاقة المهنية والتحديات الأولى
بعد تخرجه، بقي في جامعة هارفارد كأستاذ وباحث. وهناك بدأ مشروعه الطموح: ابتكار أجهزة قادرة على توليد ضغوط عالية جدًا لدراسة سلوك المواد.
لكن الطريق لم يكن سهلاً. كانت الأجهزة المتاحة آنذاك محدودة، وكثيرًا ما تعرّضت محاولاته للفشل. كان عليه أن يصمم بنفسه مضخات، وصمامات، وحاويات خاصة تتحمل الضغوط الهائلة.
بحلول عام 1910، تمكن من ابتكار أول جهاز فعال لإنتاج ضغط يصل إلى 20 ألف ضغط جوي، وهو رقم مذهل في ذلك الوقت. فتح هذا الإنجاز أبوابًا جديدة أمام دراسة خواص المعادن والمواد الصلبة تحت ظروف غير مسبوقة.
جدول زمني مبسط:
- 1908: نال الدكتوراه من هارفارد.
- 1910: ابتكر أول جهاز للضغط العالي.
- 1925: نشر أبحاثه حول سلوك المعادن تحت الضغط.
- 1946: حصل على جائزة نوبل في الفيزياء.
الإنجازات الرئيسية والأثر العالمي
أكبر إنجازات بريدجمان تمثل في تطوير علم الضغوط العالية. بفضل أجهزته، تمكن العلماء من اكتشاف حالات جديدة للمواد، وتفسير سلوكيات لم يكن ممكنًا ملاحظتها في الظروف الطبيعية.
قال بريدجمان في أحد اقتباساته الشهيرة:
«العلم ليس ما نكتشفه فقط، بل هو ما نقدر على قياسه بدقة.»
أبحاثه لم تؤثر فقط في الفيزياء، بل امتدت إلى الكيمياء وعلوم المواد وحتى الجيولوجيا، حيث ساعدت على تفسير سلوك المعادن في أعماق الأرض.
اليوم، يعد عمله أساسًا لتقنيات صناعية مهمة مثل:
- صناعة الألماس الصناعي تحت ضغط هائل.
- دراسة المواد الفائقة الصلابة.
- التطبيقات النووية والدفاعية.
التكريمات والجوائز الكبرى
تُوّجت مسيرة بريدجمان العلمية بحصوله على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1946 “لإنجازاته في اكتشاف طرق جديدة لإنتاج ضغوط عالية، ولأبحاثه العميقة في خواص المواد تحت هذه الظروف”.
كما حصل على ميداليات وشهادات تقدير من جمعيات علمية مرموقة، منها الجمعية الأمريكية للفيزياء.
كانت ردود الأفعال وقتها واسعة؛ فقد وُصف بأنه “الرجل الذي منح العلماء أعينًا جديدة لرؤية العالم المجهري”.
التحديات والمواقف الإنسانية
رغم نجاحاته العلمية، لم تخلُ حياته من التحديات. فقد عانى في سنواته الأخيرة من مشكلات صحية خطيرة تمثلت في مرض السرطان.
لكن الجانب الأكثر إنسانية في سيرته يتمثل في موقفه من الموت والكرامة الإنسانية. ففي 20 أغسطس 1961، أقدم بريدجمان على إنهاء حياته بنفسه بعدما اشتد عليه المرض، وترك رسالة قصيرة مؤثرة قال فيها:
«من الصعب أن أواصل الحياة بعدما لم أعد أستطيع العمل كما اعتدت.»
كان هذا القرار صادمًا للمجتمع العلمي، لكنه أثار أيضًا نقاشات عميقة حول معنى الكرامة، وأطلق جدلًا فلسفيًا حول الانتحار الاختياري للمرضى الميؤوس من علاجهم.
الإرث والتأثير المستمر
إرث بريدجمان العلمي لا يزال حاضرًا حتى اليوم. فمجال فيزياء الضغوط العالية يعد من أعمدة البحث الحديث، ويُدرّس اسمه في الجامعات الكبرى كنموذج للعالم المبدع.
أما من الناحية الفلسفية، فقد ساهم في تطوير ما يُعرف بـ الأداتية العملية (Operationalism)، وهي فلسفة علمية تؤكد أن معنى أي مفهوم علمي يعتمد على الطريقة التي يُقاس بها. هذا الفكر أثّر في علم النفس والرياضيات أيضًا.
الجانب الإنساني والشخصي
كان بريدجمان شخصية متواضعة، بعيدة عن الأضواء. لم يكن يسعى للشهرة، بل كان يرى أن “أعظم مكافأة للعالم هي لحظة الفهم والاكتشاف”.
ورغم انشغاله بالأبحاث، كان أبًا وزوجًا يهتم بعائلته. أحب العزلة والقراءة، وكان يكتب ملاحظات يومية حول تجاربه، وهو ما ساعد تلامذته لاحقًا على الاستفادة من أفكاره.
الخاتمة: الدروس المستفادة والإلهام
قصة بيرسي و. بريدجمان تلخص لنا أن العلم ليس فقط نتاج عبقرية فردية، بل هو أيضًا ثمرة إصرار وتفانٍ وتجريب لا يتوقف.
لقد علمنا أن الابتكار يولد من التحدي، وأن الحدود التي نراها في الطبيعة ليست إلا بداية لآفاق جديدة. ورغم نهايته المأساوية، فإن إرثه العلمي والفلسفي باقٍ ليذكرنا بأن كل اكتشاف جديد هو دعوة للجرأة على السؤال والتجريب.