نعوم شقير ورحلة الاكتشاف العلمي: تحليل لكتاب "تاريخ سينا القديم والحديث وجغرافيتها"

في مطلع القرن العشرين، وفي وقتٍ كانت فيه سيناء تُعد أرضًا بعيدة عن الوعي الجمعي المصري، بزغ نجم باحث لبناني الأصل، خدم في الجيش المصري، واستغل عمله في المخابرات لإشباع شغفه بالبحث العلمي والتاريخي. هذا الرجل هو نعوم بك شقير، صاحب الكتاب المرجعي الشهير: “تاريخ سينا القديم والحديث وجغرافيتها”، الذي صدر للمرة الأولى عام 1916، وما زال حتى يومنا هذا يُعد مصدرًا رئيسًا لكل من أراد التعرّف على سيناء: أرض الأنبياء، وميدان الصراع، ومفترق طرق الحضارات.
مدخل إلى العمل: نظرة عامة على الكتاب
كتاب “تاريخ سينا القديم والحديث وجغرافيتها” ليس مجرد عمل جغرافي تقليدي، بل هو موسوعة شاملة تربط بين الجغرافيا والتاريخ والأنثروبولوجيا. اعتمد نعوم شقير على مشاهداته الميدانية، ووثائق الحكومة المصرية والبريطانية، إضافة إلى روايات البدو والمصادر القديمة من كتب الرحالة والجغرافيين والمؤرخين. وقد قسم كتابه إلى أبواب رئيسية تتناول:
- الجغرافيا الطبيعية لسيناء.
- التركيبة القبلية والاجتماعية لسكانها.
- التطور التاريخي للمنطقة منذ أقدم العصور حتى بداية القرن العشرين.
- الجغرافيا الإدارية والسياسية.
- المسالك والطرق التجارية والحربية.
جغرافيا سيناء: جغرافيا تتكلم بلغة الصراع والحضارة
أولى نعوم شقير اهتمامًا خاصًا بتقسيم سيناء جغرافيًا، فقسّمها إلى ثلاث مناطق رئيسية:
1. بلاد الطور في الجنوب: تضم جبالًا وعرة وشاهقة، من أشهرها جبل موسى، وتتميز بكونها منطقة دينية ذات طابع تاريخي روحي، إذ يُعتقد أنها المكان الذي كلّم فيه الله النبي موسى عليه السلام.
2. بلاد التيه في الوسط: منطقة صحراوية قاحلة، تحاكي في تضاريسها الصمت التاريخي المرتبط بتجوال بني إسرائيل في صحراء سيناء لمدة أربعين عامًا.
3. بلاد العريش في الشمال: أرض منخفضة نسبيًا، وأكثر اتصالًا بالعالم المحيط، فيها مدينة العريش كنقطة حضرية ذات أهمية استراتيجية.
وقد أرفق شقير هذه التقسيمات بوصف تفصيلي للجبال والوديان والأنهار الجافة، محددًا مواقعها بدقة نادرة في عصر لم تكن فيه أدوات القياس والملاحة متطورة كما هي اليوم.
الموارد الطبيعية: جغرافيا تتقاطع مع الاقتصاد
لم يتوقف شقير عند توصيف التضاريس فقط، بل تناول أيضًا الثروات الطبيعية في سيناء، مشيرًا إلى وجود النحاس والمنغنيز وبعض المعادن النادرة، إلى جانب المياه الجوفية ومناطق الواحات المتناثرة. وفي وصفه للغطاء النباتي، أشار إلى ندرة الزراعة بسبب شُح الأمطار، لكنه نوّه إلى إمكانيات استثمارية واعدة لو توفرت البنية التحتية والدعم السياسي.
الإنسان في سيناء: قبائل، عادات، وتقاليد
أحد أبرز مساهمات الكتاب أنه لا يصف الأرض فقط، بل يتعامل مع “الإنسان السيناوي” كجزء لا يتجزأ من جغرافيتها. فقد أفرد المؤلف فصولًا مطوّلة تناول فيها القبائل التي سكنت سيناء، مثل: الترابين، التيهية، السواركة، الأحيوات، وغيرها.
وصف شقير أنظمة الحكم القبلي، وكيف تسير الحياة وفق أعراف بدوية صارمة تحكمها تقاليد متوارثة، وقوانين عُرفية عوضًا عن القوانين المدنية. كما ركّز على دور “العمدة” و”الشيخ” و”المجلس العرفي” في فض النزاعات.
ومن المثير أن شقير – رغم خلفيته العسكرية والإدارية – أظهر إعجابًا واضحًا بتماسك المجتمع البدوي وكرم أهله وشجاعتهم، واعتبر أن فهم هذا النسيج البشري ضروري لأي سياسة تنموية أو أمنية في سيناء.
التاريخ كمرآة للجغرافيا
ربط شقير بين الجغرافيا والتاريخ ربطًا محكمًا. فقد خصص قسمًا كبيرًا من كتابه لتوثيق تاريخ سيناء منذ العصور الفرعونية وحتى عصر محمد علي باشا. تناول مرور الأنبياء، وتحركات بني إسرائيل، وغزوات الهكسوس، وحملات الصليبيين، وملاحم القائد صلاح الدين الأيوبي في هذه الأرض.
كما وثّق الخلاف الحدودي بين مصر والدولة العثمانية في القرن التاسع عشر، خاصة قضية ترسيم الحدود عند رفح وطابا، ودور بريطانيا في دعم الموقف المصري. وكان شقير شاهدًا حيًا على بعض هذه المفاوضات.
المسالك والطرق: شرايين الحركة في سيناء
في فصلٍ بالغ الأهمية، وثّق شقير المسالك والطرق التي استخدمها التجار والحجاج والجيوش، من طريق الحج المصري إلى الحجاز، إلى الطرق العسكرية التي استخدمها نابليون وحملة محمد علي. وصف المسافات بدقة، وذكر مواقع الآبار والخانات، وأشار إلى المخاطر الأمنية في بعض المسالك بسبب الغزوات أو قطاع الطرق.
القيمة الأكاديمية للكتاب
ما يجعل هذا الكتاب فريدًا ليس فقط شموليته، بل أيضًا طريقته المنهجية في الجمع بين الميداني والنصي. فقد كان شقير من أوائل من مزجوا بين الدراسات الجغرافية الميدانية والمصادر النصية المكتوبة، مقدمًا وصفًا قائمًا على المشاهدة لا مجرد النقل.
كذلك امتاز أسلوبه بالدقة والموضوعية، رغم انتمائه للمنظومة الإدارية التي كانت تُشرف على سيناء، مما يضيف إلى الكتاب مصداقية خاصة، ويجعله مادة ثرية للباحثين في مجالات الجغرافيا، التاريخ، والأنثروبولوجيا.
نقد وملاحظات
بالرغم من أهمية الكتاب، إلا أن بعض النقاد أشاروا إلى ميل شقير أحيانًا إلى تبنّي وجهة النظر الحكومية في ترسيم الحدود، وهو أمرٌ قد يُفهم ضمن سياق عمله الرسمي. كما أن رؤيته عن بعض القبائل قد تكون تأثرت بالمعلومات الميدانية غير المتوازنة، نتيجة لحساسية العلاقات القبلية في ذلك الزمان.
ومع ذلك، يبقى هذا الكتاب عملًا تأسيسيًا لا غنى عنه، وقد أعيد طبعه في سلسلة “ذاكرة الكتابة” الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في مصر عام 2013.
خاتمة: إرث حي لا يذبل
بعد أكثر من قرن على صدور الكتاب، لا تزال مساهمات نعوم شقير تُذكر كعلامة فارقة في كتابة تاريخ وجغرافية سيناء. وقد يكون هذا العمل هو الدافع الأهم لإعادة النظر في أهمية سيناء ليس فقط من زاوية الأمن القومي، بل أيضًا كجغرافيا حضارية وإنسانية ضاربة في أعماق التاريخ.
ولعل في كلماته الختامية إشارة بليغة:
المصريون أصحاب سيناء لا يعرفون عنها إلا اسمها، ولا يزورونها إلا في بعثات رسمية أو حروب. فمتى يرونها وطنًا وموردًا؟
لمعرفة المزيد: نعوم شقير ورحلة الاكتشاف العلمي: تحليل لكتاب “تاريخ سينا القديم والحديث وجغرافيتها”