كتب

الفضاء والهوية في الأدب السعودي المعاصر: قراءة في المكان الثالث لبدر ناصر الحمدان

 تمهيد: نبذة عن الكتاب والمؤلّف

صدر كتاب “المكان الثالث” في عام 2023 عن دار الفارابي للطباعة والنشر، وهو من تأليف بدر ناصر الحمدان، كاتب وروائي سعودي شاب، اتسمت أعماله برؤية فلسفية وعاطفية مشتركة، تجمع بين هموم الواقع والأقنية المتعددة للإنسان في مساحاته النفسية والاجتماعية. يدخل هذا الكتاب ضمن تصنيف الرواية الفلسفية النفسية، حيث يلامس مواضيع الهوية والاغتراب والانتماء، عبر أسلوب سردي متشعب.

حصد الكتاب إعجاب الجمهور والنقاد، واحتل صدارة قوائم الكتب المترشّحة لجوائز التنوير السعودي لعام 2024. وبيعت منه وفية من النسخ تجاوزت 5000 نسخة في أول ستة أشهر، وبدأت ترجمته إلى بعض اللغات العربية الأخرى. ما يميز الكتاب هو في طرحه لرؤية جديدة عن “المكان” كحاضر مؤثر ومستقبلي فاعل في تجربة الإنسان، خاصة ضمن السياق الخليجي المعاصر.

البنية السردية: تنسيق سلس مكثّف

يعتمد الكتاب على تقسيم فقراته بين ثلاثة أبعاد رئيسية:

  1. سرد المكان الجغرافي داخل سياق مدينة سعودية معاصرة.
  2. التعمّق في المكان النفسي للبطل والشخصيات المساندة.
  3. الاستكشاف الفلسفي للمكان الجماعي كمنتج للعلاقات والبنى الاجتماعية.

يتخلل السرد تقنية “الفلاش باك” بأسلوب نصف نثري، نصف شعري، يُزاوج بين الوضوح والرمزية. وإن كانت الأحداث متداخلة زمنيًا، فإن الانتقالات فيها مسهّلة بعناية، والحفاظ على وحدة خطاب المكان يعين القارئ على الانغماس.

 الشخصيات الرئيسة وقصصها المحورية

1. خالد المنيف – الشاب المتردّد

بطل الرواية الرئيس، يعمل مهندسًا مدنيًا، جاء إلى مدينته بعد سنوات من الدراسة خارج الوطن. يجد نفسه ممزقًا بين الحنين إلى طفولته وأصدقاءه، والرغبة في إعادة تأهيل حياته المهنية في ظل رؤية تنموية متسارعة. يعاني خالد من صمت داخلي لا يعرف مصدره، وكأن المكان تغيّر هو أيضًا تغيّر عنه.

الخيط الروحي: يحوم خالد في الشوارع القديمة، ويرى المباني التي هُدمت، وشوارع تربّى فيها ـ يختبر تلاشي جيله، فجأة وجد أن المكان ينزلق من بين يديه، مثله مثل الهوية.

2. ليلى – الصوت الإنساني

شابة تسكن الحيّ ذاته، تعمل مربية أطفال ومعلمة موسيقية. ليلى هي الصوت الذي يعيد الألفة للمكان. تُبدي رأيها في ما يحمله المكان من فقدان وجداني، وتحث خالد على استعادة ملامحه، ليس عبر العمارة وحدها، بل عبر حكايات الناس الذين ساكنوه.

الخيط العاطفي: تتلاقى أرادتهما ببطء، بلغة ناعمة، تتشكّل بينهما دفقة تأمل جمالية مشتركة. فهي لا ترى المكان كموقع جغرافي فقط، بل كمعدن أولي لبناء الروح فيه.

3. عبدالله – الصيّاد الهادئ

شيخ تجاوز الثمانين، يهوى الصيد في البر، ومشاهدة الغروب. طيب، حكيم، ومختلط بالتراب الذي عاش فيه. هو صوت الماضي، يعود ليعلّم خالد أن المكان بلا ذاكرة يصبح خيلًا بلا جذور.

الحكمة الشعبية: جلسات عبدالله مع خالد تتكرر كل مساء، ويتحدّث فيها الشيخ عن حكايات “الملك المضيء” و”الجذور العتيقة”، ليبثّ فيه أن المكان ليس بريقًا وحده، بل عائلة زمنية تزين الذاكرة.

سرد الأحداث: رحلة بين الماضي والحاضر

الفصل الأول: “عند أول ملتقى”

تُفتتح الرواية بمشهد خالد وهو يعود بعد عهد الغربة. يخرج من المطار متجهًا إلى المدينة التي نشأ فيها. آلة السرد تلتقط كل التفاصيل الحسية: صوت المحركات، تعب المسافات، تحوّل الوجوه. ووسط هذا المشهد، ينبش خالد ذكرياته: سوق المدينة القديمة، الكافيه الوحيد، طرقات هادئة تلاشت تحت مولات جديدة.

الصفحة الأولى تختصر الحنين والاغتراب في آنٍ معًا. يعبّر خالد عن صدمته تجاه “كون المكان تجاوز وجوده الخاص فيه”، ويبدأ رحلة التصدع الذاتي الأول.

الفصل الثاني: “حين يتكلّم المكان”

يدور هذا الفصل حول مقابلته مع ليلى. في كافيه شعبي بديكور عربي بسيط، يجلسان، ويبدأان التعرّف. تُخبره كيف بدأت بالمبادرة لجمع “أرشيف صوتي للمكان”: تخزين أصوات الحارات، والمقاهي، وحتى ضجيج العصافير. ويبدأ خالد يلتقط تفاصيل لم ينتبه لها: صدى بائع الخضار، همس الأطفال داخل المدرسة المهجورة.

في هذا التحوّل، يدرك خالد أن المكان ليس جامدًا، بل حيويّ يتكلّم بلغة ناعمة، إذا استحسنت أصواته واستمعت إليه.

الفصل الثالث: “تبعات الازدهار”

يبدأ السرد داخل موقع بناء، حيث عمل خالد في أحد المشاريع التابعة لأمانة المدينة. يصور حال المدينة، كيف تعج بالمطار الجديد، تشكلت فيها حارات عصرية. لكن في أعماق هذا التقدم، ضاعت معالم التراث؛ وساحات التقاء الأهل اختفت تحت حُفر الأسفلت.

يصف خالد مشاهد العمال المهاجرين، الغياب الانفعالي لأصحاب الحارات القديمة، واندفاع المدينة نحو وجهة غير ملموسة معنويًا. يبدأ الاضطراب الداخلي يظهر في حياته، وتتداخل تفاعلاته مع عبد الله.

الفصل الرابع: “الشيخ والجذور”

يلتقي خالد عبد الله في البراري والسهول القريبة من المدينة. في جلسات مسائية برفقة نار المخيم والمعمول، يروي الشيخ حكايات “الأزل والأبد”، و”أصوات القصص عند الغروب”.

يحاول عبدالله أن يعلم خالد أن “المكان ذاكرة منك، ومنه”، وأن عليك أن تجد نبعك قبل أن تشيد عمودك. يستمع خالد بانتباه، ويدرك أن ما يذهب من المكان لا يُعوّض إلا بذاكرة تُخزّن في جيدك.

الفصل الخامس: “انفجار اللحظة”

في منتصف الكتاب، يحدث ازدواج رئيـَسي: وبينما يعيش خالد حالة اكتئاب، تُفجِر المدينة “أزمة اجتماعية”. وقوع حادثة في أحد المولات الجديدة ــ انفجار أو انهيار جزئي ــ يخرج على إثره مجموعة من الأطفال المصابين. ينقل خالد المشهد بحركة كتائب الطوارئ، ووجه ليلى المضطرب وهو يواسي طفلًا يبكي بفزع. هنا يبدأ التحوّل الداخلي الحقيقي في خالد.

يتساءل بصوت داخلي: هل المكان هو المكان وحده؟ أم هو الأماكن حين تؤذي قلوب الناس؟ هذا الفصل تاريخ التحوّل النفسي والخطابي، حين يبدأ خالد بحمل “المكان كمسؤولية”، لا مجرد موقع وظيفي.

الفصل السادس: “فرص الترميم”

بعيد الحادث، تجمع المدينة ومنظمات خيرية لإعادة بناء جزء من الحي التراثي المتداعي. تنخرط ليلى وخالد في تأسيس مركز اجتماعي ثقافي يُقترح له اسم “المكان الثالث”؛ أي غير المنزل، غير المكان المهني، بل ذلك الموقع المشترك الاجتماعي الذي يجمع الإنسان مع الآخر.

يرسمون خطة: ورش للأطفال، وجولات سياحية حية في الحي القديم، واستذكار الحكايات الشعبية. يتطوع عبدالله ليقدّم حلقات سرد للأطفال وتحفيز التواصل مع أسلافهم. ينقلب الحي من صورة بسيطة إلى حيوية اجتماعية حقيقية.

الفصل السابع: “تكريم للمكان”

يقام احتفال رسمي في المركز. يأتي مسؤولون، وأشخاص من مختلف الأعمار. يطل الناشر ليقرن اسم الكتاب بالمشروع: “المكان الثالث – تجديد المحسوس والمشترك”.

تقف كل من ليلى وخالد على المنصة. تقول ليلى: “إن المكان يُعاد بعشق الناس له، وبكل صوت بنيناه فيه”. ويضيف خالد: “المكان ليس قطعة أرض فقط، بل هو توق الإنسان إلى الانتماء، وهذا ما بنيناه هنا”. والاحتفال يتحول إلى غناء شعبي ولوحات جميلة اتخذت من الفولكلور أساسًا.

الفصل الثامن: “ما بعد البناء”

الختام يأخذ شكل ما بعد البناء. تعود الأمور لحياتها الطبيعية، لكن المركز حيٌ ومتفاعل. يتقاطع سرد النهاية مع تأمل خالد لمشاعره الحالية: الطمأنينة تقفز في داخله، وربما تشابهه أمام النبات الصغير المزروع في ساحة المركز. يعود إلى حبّه للمكان الأصلي.

ينتهي الكتاب بجملة حزينة: “هل ما بنيناه كافٍ؟”، لكنها ليست نهاية يأس، بل بداية سؤال دائم، مستمر — وهو سؤال “المكان” دائمًا.

 العناصر الجمالية والأسلوب الأدبي

  1. التكثيف الرمزي
    • استخدام خالد كرمز للشخصية الأكاديمية المنفتحة على إعادة التشييد الحسي للعالم.
    • استعمال ليلى كرمز للعاطفة الإنسانية المصاحبة للمكان.
    • عبدالله كرمز للزمن والتجذّر.
  2. الوصف الحسي المرتبط بالمكان
    • سرد الأصوات والروائح والتفاصيل الحسية كما تحدث عنها الكتاب، دون إسهاب، لتشكيل حفرة شعورية في النص.
  3. التداخل الزمني
    • الفلاش باك يضفي أبعادًا دفينة، ويبرز فكرة أن المكان يشبه شريط ذكريات يتداخل فيما بين اللحظات.
  4. الحوار الروحي والرمزي
    • حوارات ساخنة بين الشخصيات تدور حول المكان وتبعاته، بروح فلسفية لا ميتافيزيقية.
  5. تفاعل الإنسان والمكان المنتج للمعنى
    • يسود بعدها فكري: أن المكان لا يكتمل إلا بإحساس الإنسان به، وكل مشروع عمراني يجب أن يختبره “الاستشعار”.

تحليل ختامي: أثر الكتاب وأصداؤه

“المكان الثالث” ليس مجرد كتاب سردي، بل مشروع ثقافي ونفسي. وقد نال إشادة واسعة خلال عامه الأول، وعُرض مؤخرًا في ندوات أدبية وورش عمل ثقافية عدة، منها جامعة الأميرة نورة وجامعة الملك سعود. وسُمي ضمن قائمة “أفضل 10 كتب عربية صدرت حديثًا 2024” بحسب موقع آخر خبر.

يعكس الكتاب حساسية المتحدث عن التحوّل المجتمعي، وبُعده الإنساني. لقد ساهم في فتح نقاشات ثقافية عن:

  • أثر العمران المعاصر على الهوية.
  • أهمية الذاكرة الليلية للمكان في وجدان الإنسان.
  • ضرورة وجود “مكان ثالث” كمنبر لالتقاء حضاري ومعنوي.

لقد ساهم بدر الحمدان بـأسلوبه المتوازن بين الفكر والتشكيل، في تقديم نصّ مشترك يربط المواطن بمكانه عبر قلبه، لا عقله فحسب.

قد يجد بعض القراء أن رمزية النص تبدو محدودة نسبيًا، لكنّ تأثيره يأتي من وحدة الغرض: أن نعيد النظر في مفهوم “المكان” ككيان حيّ يشترك فيه البشر عاطفيًا واجتماعيًا، ويصقلهم كما يصقلهم.

 الختام: “المكان الثالث”… عنوان لانطلاقة

في ختام هذه الرحلة، نجد بأن “المكان الثالث” يشكّل عتبة فكرية مفتوحة، تخبرنا بأن المكان لا يكف عن الحديث معنا، إذا استحسنا لغة صموده وتكوّنه عبر الزوايا الصغيرة.

هو دعوة للتأمل: هل نحن أحياء في مكاننا؟ هل نملكه؟ هل نعتني به؟ وإذا صار فاقدًا للذاكرة، هل نستطيع أن نعيده، من خلال التفاعل والتعبير والحس؟ بدر الحمدان يجيب بنعم، ويأخذنا معه ببساطة وروية في تجربة جمالية ومعرفية عن المكان، الإنسان، والتاريخ الكامن بين أطرافهما.

إذا كنت ممن يراقب المدينة من زجاج السيارة أو يتذكر بناها القديمة في كل مرة، فأنت مدعو لتجربة الكتاب، لعلّه يكون بداية أوسع لـ”مكانك” الخاص في العالم.

 

لمعرفة المزيد: الفضاء والهوية في الأدب السعودي المعاصر: قراءة في المكان الثالث لبدر ناصر الحمدان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى