سير

جولياس فاجنر–يورج: حين أصبحت الحمى دواءً والعلم مغامرة

 إشعال الفضول: بداية رحلــة العبقرية

في زقاق ضيق بمدينة ويلس النمساوية، وُلد حلم صغير في 7 مارس 1857، سيُغيّر مستقبل الطب النفسي إلى الأبد. ذلك الطفل كان جوليوس فاجنر–يورج، الذي ابتكر علاجًا غيّر مصير مرضى الباراليزيا العامة (dementia paralytica)، وهو الشكل المتقدم من مرض الزهري الدماغي (neurosyphilis). في عام 1927، منحت لجنة نوبل جائزتها له “لاكتشافه القيمة العلاجية لتلقيح الملاريا في علاج هذا المرض”، وهو إنجاز خيم أثره على الطب لعقود. هذه هي قصة رجل لم يكتفِ بترقب الأعجاز، بل صار هو الأعجاز.

 النشأة والطفولة: ملامح التكوين

وُلد جوليوس في أسرة متوسطة، والده أدولف يوهان فاغنر، الذي حاز لقب Ritter von Jauregg عام 1883. التحق مبكرًا بمدرسة Schottengymnasium في فيينا، حيث أظهر ميلًا مفاجئًا للعلوم والفضول حول أجهزة الإنسان الداخلية. نشأ وسط أوروبا التي كانت تئن تحت ضغوط التحولات السياسية والطبية في أواخر القرن التاسع عشر، وكان لهذا البيئة بالغ الأثر في تكوين رؤيته الإنسانية والعلمية. لقد كان صغيرًا عندما أدرك أن العالم لا يزال يختنق بأمراض قاتلة دون علاج.

مجموعة من المواقف الأولى يُروى، مثل ذلك اليوم الذي أذهل فيه زملاءه بحماسته لتفكيك آلة ميكانيكية صغيرة – كاشفًا عن ذكاء فطري، يحتاج فقط لمنهج علمي لينطلق به نحو أرقام لا تُنسى.

 التعليم والمسار الأكاديمي: خطوات نحو القمة

بدأ دراسة الطب في جامعة فيينا عام 1874، وتخصص في الأمراض العامة والتشريح التجريبي تحت إشراف Salomon Stricker، وتخرج عام 1880 برسالة دكتوراه بعنوان “L’origine et la fonction du coeur accélére”. رغم أنه كان مهيأً للدخول إلى الممارسات الطبية العادية، إلا أن فشله في تأمين وظيفة في الطب العام دفعه إلى التوجه إلى الطب النفسي عام 1883، بوظيفة مساعد لدى Max Leidesdorf.

في عام 1887، نشر بحثًا رائدًا يعرض فكرة ربط الحرارة (الحمى) بالعلاج النفسي. بعد ذلك، في 1889، أصبح أستاذًا غير عادي في جامعة غراتس وخلف Krafft‑Ebing، ثم عاد إلى فيينا عام 1893 كمدير لعيادة الأمراض النفسية والأعصاب في المستشفى العام.

 

 الانطلاقة المهنية: أولى خطوات التأثير

العام المنصب والمكان الأهلية والإنجاز
1883–1887 مساعد Leidesdorf – فيينا بدأ تجاربه على المرضى النفسيين
1889 أستاذ في جامعة غراتس أبحاث عن الدراق (goitre) والقصور الدرقي (cretinism)
1893 مدير عيادة الأمراض النفسية في فيينا إشراف على مرضى الأعصاب والنفس
1902 انتقال للعيادة الجامعية اتساع نطاق النشاط البحثي
1911 استعادة إدارة Steinhof توسعة العيادة وبداية أبحاث الحمى

شهدت هذه الفترة تراكم خبرات رهيبة، من التعامل مع مرضى الاضطرابات النفسية وتقصي أسباب التحسن المفاجئ إثر الحمى، إلى تطوير علاجات تعتمد على أمراض مصطنعة.

 الإنجازات الثورية: التغيير الحقيقي

1887 – الفكرة المبدئية

نشر بحثًا عن تأثير الحمى على الأمراض النفسية، وأشار إلى حالات شُفيت بعد الإصابة بعدوى.

1890–1910 – تجارب عامّة

استخدم التوبركولين (Tuberculin) والإريسيبيلس (erysipelas)، لتحفيز الحمى دون نجاح كبير.

يونيو 1917 – نقطة التحول

بدأ علاج 9 مرضى مصابين بالباراليزيا العامة بحقن Plasmodium vivax، وتبعها علاج بالـ Quinine. أثبت 6 منهم تحسّنًا ملحوظًا.

لقد لاحظت أن الملاريا يمكن السيطرة عليها بالحبوب، فكان علاج الحمى مثاليًا.

1922 – توسيع التتبع

نشر نتائج لعلاج 200 مريض، مما رسّخ قاعدة علمية قوية.

التأثير

تدعي بعض الدراسات تحسّنًا جزئيًا أو كليًا لنحو 15–40% من الحالات، وتحسنًا في أكثر من 50% من المرضى، مقارنة بنسب علاج معدومة قبل ذلك.

 

لحظة نوبل: القمة المنتظرة

  • السنة: 1927
  • الجائزة: نوبل في الفسيولوجيا أو الطب
  • الدافع الرسمي: “لاكتشاف القيمة العلاجية لتلقيح الملاريا في علاج الباراليزيا العامة”
  • السياق العالمي: في عشرينيات القرن العشرين، عُدّ مرض الباراليزيا قاتلًا لا يُشفى منه تقريبًا. إذًا، كان اكتشاف علاج فعال من علامات استثنائية على “قفزة نوعية”.
  • ردة الفعل: هو أول طبيب نفسي يفوز بجائزة نوبل، وانتشرت أخبار فوزه عالميًا، واحتفت به الصحف والصالات العلمية.

المنافسة

كانت الجائزة تقليديًا تُمنح لأطباء أمراض القلب أو الأحياء الدقيقة، ولكن الاتجاه التطبيقي العلاجي لجوليوس أبهر لجنة نوبل، رغم وجود أسماء مثل Egas Moniz، مؤسس الكراعة الدماغية (lobotomy).

التحديات والإنسان خلف العبقرية

واجه مقاومة اجتماعية وطبية، إذ وصف طريقتَه بالخطرة بسبب احتمال وفاة بعض المرضى (2–13%). شعر بالضغوط، خصوصًا عندما كان على أبواب الأربعين، ولم يكن يعلم إن كان اكتشافه سيُعتمد أم يُدفن في أدراج المستحيل.

آخرون شككوا في أخلاقية إحداث مرض جديد لمعالجة مرض قديم. لكنه ظن أن المخاطرة تُقدر أمام فرصة إنقاذ حياة البعض.

إذا لم يقتلنا العلاج… سنحظى بفرصة.

ذلك كان جوهر التصميم والإصرار.

 الجوائز والإرث: ما تركه للعالم

  • جائزة كاميرون (Cameron Prize) من جامعة إدنبرة، 1935
  • حوالي 80 ورقة علمية نشرها حتى سنوات حياته الأخيرة
  • ألّف كتبًا أمثال: Myxödem und Kretinismus (1912) وLehrbuch der Organotherapie (1914)
  • إرثه بقى كإلهام لعلاجات الحرارة العلاجية (بما فيها الصدمات الكهربائية والعلاج بالإنسولين)

 الجانب الإنساني: روح خلف الإنجاز

كان جولياس شخصًا متزنًا، جادًّا، ولكن بعيدًا عن الفصاحة الوعيّة. عمله في القانون الشرعي (forensic medicine) وهيّأ القوانين الخاصة بتقييم الأمراض العقلية في النمسا. رغم براعته، عرف بصرامته، وهو من دعم تعقيم المجانين، مما يضعنا أمام تعقيدات إنسانية أخلاقية.

ما بعد نوبل: الاستمرار أو الخلود

تقاعد عام 1928، لكن ظل نشطًا: نشر بحوثًا حتى عام 1940. استخدمت تقنية العلاج بالملاريا حتى اكتشاف البنسيلين عام 1940، والذي أنهى هذه الطرق، لكن أثره بقي منطلقًا للطب النفسي البيولوجي.

توفي في 27 سبتمبر 1940 بفيينا، تاركًا إرثًا حافلًا، ومثار إشادة وانتقاد – خاصة لتبنيه لبعض نظريات التطهير العرقي (eugenics) وتأييده المبكر لألمانيا النازية، مما وضع صورة الرجل العبقري أمام مرايا أخلاقية معقدة.

 الخاتمة: أثر خالد

بدأت الرحلة في زقاق نمساوي صغير، وانتهت بجائزة عالمية، أحدثت تحولًا طبيًا. سيرة جولياس فاجنر–يورج تذكرنا بأن العبقرية تتشكل في تقاطع الألم والإصرار. إنجازاته أثرت في مجالات الطب النفسي والتاريخ الطبي، ولكن محفوفة برؤى أخلاقية مثيرة للجدل.

لكن إرثه يبقى درسًا: عبقرية بدون نقد ترسخ، وتاريخ بلا إنعكاس أخلاقي يظل هشًّا أمام الزمن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى