هنري برغسون: عبقري الوعي الذي صاغ الزمن بحبر الفكر

لم يكن هنري برغسون مجرد فيلسوف فرنسي كلاسيكي، بل كان صاحب ثورة فكرية متمردة على السكون العقلي، عبّرت عن نفسها في كتابات ألهبت الأذهان وأثارت جدلًا فكريًا واسعًا.
وعندما قررت أكاديمية نوبل منحه جائزة نوبل في الأدب عام 1927، لم يكن تكريمًا لأعمال أدبية تقليدية، بل لكتاباته الفلسفية العميقة التي عبرت عن الحياة كطاقة دافقة تتحدى المنطق الجامد.
من أحلام الطفولة إلى بوابة الفكر
تاريخ الميلاد: 18 أكتوبر 1859
مكان الميلاد: باريس، فرنسا
وُلد هنري برغسون لأب موسيقي بولندي يهودي وأم إنجليزية من خلفية فكرية رفيعة. قضى سنواته الأولى بين باريس ولندن، ما منح تفكيره مزيجًا فريدًا بين العقل الفرنسي والتأمل الإنجليزي. كانت أسرته محبة للفنون والموسيقى، مما ساهم في تنمية حسه الجمالي منذ الصغر.
روى أحد أقاربه لاحقًا أنه كان يحب الجلوس لساعات يراقب عقارب الساعة، لا ليحسب الزمن، بل ليفكر: “لماذا يشعر الإنسان بالوقت أكثر مما يراه؟”
رحلة التعلم: تأسيس الفيلسوف القادم
بدأ دراسته في مدرسة ليسيه كوندورسيه (Lycée Condorcet)، حيث تفوّق في الرياضيات والفلسفة، ونال جائزة أكاديمية عن ترجمته لكتاب لاتيني وهو في السابعة عشرة فقط. في عام 1878، التحق بمدرسة École Normale Supérieure المرموقة، وهناك بدأ يتشكل وعيه الفلسفي.
أنهى أطروحته الجامعية بعنوان “الزمان والحرية” (1889)، حيث رفض النظر إلى الوقت كمعيار ميكانيكي ثابت، وطرح مفهوم “المدة” (la durée)، وهو حجر الزاوية في فلسفته.
الانطلاقة المهنية: بين التعليم والكتابة
عمل مدرسًا في عدد من المدارس الثانوية، لكن روحه كانت تبحث عن فضاء أرحب. في عام 1900، عُيّن أستاذًا في كلية كوليج دو فرانس، حيث ذاع صيته كمحاضر ملهِم، وكانت قاعته تمتلئ بجمهور من المثقفين والفنانين والسياسيين.
السنة | الحدث |
---|---|
1889 | نشر كتابه الأول “الزمن والإرادة الحرة” |
1900 | أصبح أستاذًا للفلسفة في Collège de France |
1907 | أصدر “التطور الخلاق” أشهر أعماله |
1927 | فاز بجائزة نوبل في الأدب |
الإنجازات الثورية: عندما تكلم الزمن
✦ 1. الزمن والإرادة الحرة (1889)
قدم فيه فكرته الجوهرية أن الزمن كما يعيشه الإنسان يختلف عن الزمن الفيزيائي. فالزمن ليس مجرد تسلسل دقائق، بل تجربة شعورية حيّة.
✦ 2. المادة والذاكرة (1896)
ربط فيه بين الوعي والدماغ، واقترح أن الذاكرة لا تُختزل في العمليات البيولوجية فقط، بل تتجاوزها نحو الإدراك الحر.
✦ 3. التطور الخلاق (1907)
عمله الأهم، حيث صاغ فيه مفهوم “الدفعة الحيوية” (élan vital) كقوة داخلية تدفع الحياة للتطور. هاجم فيه الآلية والداروينية الصارمة، مؤكدًا أن الحياة ليست ميكانيكية بل إبداع دائم.
العقل لا يمكنه أن يدرك الحياة إلا إذا انفتح على الحدس. – هنري برغسون
✦ 4. الضحك: مقال في دلالة الفكاهة (1900)
كتاب فكاهي فلسفي يحلل الضحك كظاهرة اجتماعية، ويعد أحد أعمق ما كُتب عن الكوميديا.
لحظة نوبل: تتويج الفلسفة بالأدب
في 10 ديسمبر 1927، أعلنت الأكاديمية السويدية فوز هنري برغسون بجائزة نوبل في الأدب، تقديرًا لـ”أفكاره الغنية بالأصالة، وللغته اللامعة، ولأثره العميق في الفكر العالمي” (وفقًا لمؤسسة نوبل، 1927).
كان منح جائزة أدبية لفيلسوف مثيرًا للجدل آنذاك، لكنه عكس التقدير الكبير لأسلوبه الأدبي الرشيق، الذي جمع بين الدقة الفلسفية والبلاغة الأدبية.
ردة فعل برغسون كانت متواضعة لكنه عبّر عن امتنانه قائلًا:
إن هذا التكريم ليس لشخصي فقط، بل لفكرة أن الفلسفة يمكن أن تلامس الحياة.
الإنسان وراء العبقرية
رغم الشهرة، كان برغسون يعاني من الالتهاب المفصلي المزمن، مما جعله يتنقل على كرسي متحرك في أواخر حياته. لكنه لم يتوقف عن الكتابة والمحاضرات، حتى وهو في أقصى درجات الألم.
واجه أيضًا هجمات فكرية من تيارات علمية ووجودية، لكنه ظل مؤمنًا بأن الإنسان أكثر من مادة، وأن الحياة لا تُفسّر بالقوانين فقط.
جوائز أخرى وإرثه المستمر
إلى جانب نوبل، حصل على:
- وسام جوقة الشرف الفرنسي عام 1928
- عضوية الأكاديمية الفرنسية عام 1914
ألّف 7 كتب فلسفية رئيسية، تُدرس حتى اليوم في كبرى جامعات العالم. أثّرت أفكاره في كبار الفلاسفة مثل جان بول سارتر وجيل دولوز، بل وحتى في علماء النفس أمثال كارل يونغ.
الجانب الإنساني: قلب فيلسوف
رغم خلفيته اليهودية، رفض برغسون التحول الديني عند تصاعد الفاشية، وكتب وصية قال فيها إنه يرفض التحول للمسيحية تضامنًا مع المضطهدين من اليهود.
شارك في عدة لجان إنسانية لدعم التعليم في الدول الفقيرة، وكتب عن ضرورة الدمج بين العقلانية والحدس في بناء الإنسان المتكامل.
ما بعد نوبل: بين الصمت والخلود
توفي هنري برغسون في 4 يناير 1941 عن عمر ناهز 81 عامًا، وترك خلفه إرثًا لا يموت. حتى بعد وفاته، ظل يُكرّم بكتابات ومؤتمرات ومراكز بحثية تحمل اسمه.
في عام 2007، أُعيد نشر كتبه كاملة في طبعة خاصة بإشراف اليونسكو، تأكيدًا على مكانته في الفكر العالمي.
أثر خالد… وعبقرية لا تُنسى
سيرة هنري برغسون ليست مجرد حكاية فيلسوف، بل قصة رجل آمن بأن الزمن ليس خطًا مستقيمًا، بل نبض حياة. من حواري باريس إلى قاعات نوبل، من التأملات في الضحك إلى نظريات الوعي، ترك برغسون أثرًا خالدًا في كل من قرأه.
لقد أثبت أن الفلسفة يمكن أن تكون شاعرية ومتحركة وعميقة، وأن الإبداع لا يقف عند حدود المعادلات، بل ينطلق من الروح.
الفكر هو الحياة، والحياة لا تُختصر في المنطق فقط. – هنري برغسون