شارل نيكول: من مختبرات تونس إلى مجد نوبل... رحلة عالم أنقذ البشرية من التيفوس

النشأة والطفولة: جذور في أرض العلم
وُلد شارل في كنف أسرة علمية، فوالده كان الطبيب أوجين نيكول، الذي شغل منصبًا مرموقًا في مستشفى روان. تأثر شارل مبكرًا بجوّ الطب والمعرفة الذي ساد المنزل. اعتاد أن يراقب والده وهو يعالج المرضى، ويطرح عليه الأسئلة بفضول لا ينضب. منذ نعومة أظافره، كانت ملامح الشغف بالعلم ترتسم في عينيه، وكانت والدته ألين لوفيريه تزرع فيه حب المعرفة والانضباط.
نشأ في فترة كانت فرنسا تمر خلالها بتحولات سياسية واجتماعية عميقة، وهو ما جعله يرى في العلم وسيلة للاستقرار والارتقاء بالإنسان.
التعليم والمسار الأكاديمي: إلى معهد باستور
بدأ نيكول تعليمه في مدرسة “ليسيه كورنيل” في روان، حيث أبدى نبوغًا في العلوم الطبيعية. ثم التحق بكلية الطب في باريس، وتخرج منها عام 1893، حيث حصل على درجة الدكتوراه في الطب. كانت أطروحته بعنوان:
“أبحاث حول القرحة الرخوة”، وهي دراسة بكتيرية متقدمة في وقتها، لاقت اهتمامًا في الأوساط الأكاديمية.
بعد التخرج، أمضى وقتًا في معهد باستور في باريس، حيث تعرّف على أفكار رواد علم الجراثيم، مثل لويس باستور وروبير كوخ، مما شكل فكره العلمي وأشعل طموحه في التوسع في مجال الأمراض المعدية.
الانطلاقة المهنية: مختبر روان
عاد نيكول إلى مسقط رأسه ليؤسس مختبرًا بكتريولوجيًا في مستشفى روان، حيث بدأ بإجراء أبحاث ميدانية على أمراض مثل الدفتيريا والسل. لكن طموحه كان يتجاوز حدود المدينة الفرنسية الصغيرة.
في عام 1903، عُين مديرًا لمعهد باستور في تونس، وكانت هذه الخطوة نقطة تحول مفصلية في مسيرته العلمية، إذ وجد في شمال أفريقيا أرضًا خصبة للأبحاث، وواجه أمراضًا مستعصية كانت تنهك السكان.
الإنجاز الثوري: اكتشاف ناقل التيفوس
في تونس، راقب نيكول انتشار مرض التيفوس، الذي كان يفتك بالمجتمعات، خاصة في السجون والمناطق الفقيرة. لاحظ أن المرض يختفي عندما يُغتسل المرضى وتُحرق ملابسهم، فبدأ يشك بوجود ناقل خارجي.
في عام 1909، أجرى تجربة باستخدام القمل المأخوذ من مرضى التيفوس، وحقن به شمبانزي سليم. بعد أيام، ظهرت أعراض المرض عليه. وهكذا، أثبت نيكول لأول مرة أن القمل هو الوسيلة الأساسية لانتقال التيفوس بين البشر.
كان هذا الاكتشاف مفصليًا، فتح آفاقًا جديدة للوقاية من المرض، خاصة في الحروب والمناطق المكتظة.
حينما عرفت أن القمل هو القاتل الصامت، شعرت بأنني أملك سلاحًا لإنقاذ آلاف الأرواح. — شارل نيكول
لحظة نوبل: القمة المنتظرة
في 10 ديسمبر 1928، مُنحت جائزة نوبل في الطب لـ شارل نيكول، وجاء في بيان الأكاديمية الملكية السويدية:
لأجل اكتشافه أن القمل هو الناقل لمرض التيفوس، مما أحدث ثورة في طرق الوقاية من المرض.
(The Nobel Prize Organization, 1928)
تلقى نيكول الجائزة بتواضع شديد، وعبّر عن امتنانه للبيئة العلمية في معهد باستور بتونس، ولزملائه الذين ساندوه، وخصّ بالذكر مساعدته هيلين سبارو.
التحديات: العالم الإنسان
واجه نيكول الكثير من الصعوبات، من نقص التمويل، إلى مقاومة بعض السلطات لأبحاثه، لكنه لم يستسلم. كان يعمل لساعات طويلة، ويفتش في الأحياء الفقيرة بنفسه. أُصيب بعدة أمراض معدية، لكنه استمر في العمل.
رغم انشغاله بالبحث، كان إنسانًا رقيقًا، يعامل مرضاه باحترام، ويهتم بتدريب الشباب، خاصة الباحثين التونسيين، على أصول البحث العلمي.
الجوائز والإرث العلمي
إلى جانب جائزة نوبل، نال نيكول عدة أوسمة وجوائز منها:
- جائزة مونيون (Monyon) في 1909، 1912، 1914
- جائزة أوزيريس (Osiris) عام 1927
- عُين عضوًا في الأكاديمية الفرنسية للعلوم عام 1929
- شغل كرسي الطب التجريبي في Collège de France عام 1932
نشر نحو 40 دراسة علمية، وشارك في تطوير لقاحات ضد الحمى المالطية والتراخوما، وساهم في رفع مستوى الصحة العامة في شمال أفريقيا.
الجانب الإنساني: الروح خلف المجهر
لم يكن نيكول فقط باحثًا، بل كان أيضًا مفكرًا وأديبًا. كتب مقالات في الفلسفة، وألف كتابًا بعنوان “Le Pâtissier de Bellone”، تناول فيه العلاقة بين الحرب والعلم، بلغة أدبية مؤثرة.
كان يرى أن العلم ليس حكرًا على المختبرات، بل رسالة أخلاقية وإنسانية، تعنى بكرامة الإنسان قبل صحته.
ما بعد نوبل: حتى لحظة الرحيل
واصل نيكول عمله في معهد باستور بتونس حتى وفاته في 28 فبراير 1936. دُفن في فناء المعهد، وكُتب على قبره:
العلم في خدمة الإنسان، والروح في خدمة الحياة.
بعد وفاته، سُمّيت عدة مستشفيات ومراكز طبية باسمه، أبرزها:
- مستشفى شارل نيكول في تونس
- مستشفى روان التعليمي في فرنسا
الخاتمة: إرث خالد
سيرة شارل نيكول هي ملحمة علمية وإنسانية. من طفل فضولي في روان، إلى رائد أنقذ البشرية من مرض قاتل، ووضع أسسًا لفهم الأوبئة وطرق الوقاية منها. علمه لا يزال يُدرّس، وصورته لا تزال تزيّن جدران معهد باستور، كرمزٍ لرجل وهب حياته للحقيقة.
إنه نموذج حيّ على أن العلم وحده لا يكفي، بل لا بد من قلبٍ يضيء الطريق.