إيرين جوليو-كوري: من طفلة بين أنابيب المختبر إلى أيقونة فيزياء الذرة والإنسانية

في أحد المختبرات المغمورة في قلب باريس، كانت فتاة صغيرة تتجوّل بين أنابيب الاختبار وصفائح الرصاص الثقيلة، حيث الهواء مشبع برائحة الغبار الإشعاعي، والعيون لا ترى إلا وهج التجربة. لم تكن هذه الفتاة مجرد ابنة لاثنين من أعظم العلماء في العالم، بل كانت بذرة علمٍ جديدة ستنبت من رماد الراديوم وتشق طريقها الخاص نحو المجد. إيرين جوليو-كوري، ابنة ماري وبيار كوري، لم تكتف بأن تكون وريثة إنجازاتهما، بل شيدت بيديها عالماً جديداً من الاكتشافات، وسجلت اسمها في سجل جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1935، لتصبح المرأة الثانية في التاريخ – بعد والدتها – التي تفوز بهذه الجائزة المرموقة.
لم تكن رحلتها طريقًا ممهّدًا، بل صعودًا وعرقًا ومعارك مع المجتمع والعلم، فكيف أصبحت هذه العالِمة أحد أعمدة الفيزياء الحديثة؟ دعونا نبدأ القصة من أول سطر.
من رحم العبقرية: النشأة والطفولة
وُلدت إيرين كوري في 12 سبتمبر 1897 في باريس، فرنسا، في منزل يضج بالعلم والهواء الراديومي. والدتها هي ماري كوري، أول امرأة تحصد جائزة نوبل في الفيزياء (1903) والكيمياء (1911)، ووالدها بيار كوري، الفيزيائي المعروف. منذ نعومة أظافرها، كانت محاطة بجو من التجربة والفضول العلمي.
لكن وفاة والدها بحادث مأساوي عام 1906 تركت فراغًا هائلًا في حياتها، فتكفلت الأم بتربيتها، ليس فقط كأم، بل كقدوة علمية صارمة. أدرجتها ماري في “التعاونيات التربوية” – نموذج تعليمي تجريبي، كانت فيه المعلمات نساءً عالمات مثل ماري نفسها، حيث تدرّبت إيرين على الرياضيات والفيزياء من أعلام كبار منذ طفولتها.
في ظل الحرب العالمية الأولى، حين كان عمرها لا يتجاوز 17 عامًا، عملت مع والدتها في المستشفيات الميدانية، حيث أدارت أجهزة الأشعة لتشخيص جرحى الحرب، ما زرع في نفسها الإحساس بالمسؤولية والتضحية.
خطوات نحو القمة: التعليم والمسار الأكاديمي
أنهت إيرين تعليمها الثانوي باكرًا، ثم التحقت بجامعة السوربون – التي كانت والدتها تدرّس فيها – لدراسة الفيزياء والكيمياء. تخرجت بامتياز في عام 1920، ثم واصلت دراستها في معهد الراديوم الشهير، حيث كانت تعمل والدتها.
في هذا المعهد، بدأت إيرين تضع اللبنات الأولى لمسيرتها العلمية، تحت إشراف والدتها وعدد من علماء الفيزياء النووية البارزين. أطروحتها للدكتوراه كانت حول النشاط الإشعاعي للبولونيوم، وتمت مناقشتها عام 1925، لتفتح بذلك الباب لأبحاثها المستقلة.
بداية التأثير: من المساعدة إلى الريادة
في معهد الراديوم، لم تكن إيرين مجرد مساعدة في المختبر، بل قائدة تجارب معقدة في وقت كان فيه العلم حكرًا على الرجال. هناك التقت بزميلها فريديريك جوليو، وكان عالمًا شابًا طموحًا، ووقعت في حبه. تزوجا عام 1926، ومنذ ذلك الحين عرف العالم الثنائي الجديد في علوم الذرة: جوليو-كوري.
تشاركا في الأبحاث والمشاريع، وركزا جهودهما على دراسة النوى الذرية والنشاط الإشعاعي الاصطناعي، وهو المجال الذي سيؤدي لاحقًا إلى اختراعات مثل المفاعلات النووية والأسلحة الذرية.
جدول زمني لأهم محطات حياتها العلمية
السنة | الحدث |
---|---|
1897 | ولدت في باريس |
1920 | حصلت على شهادة الفيزياء من السوربون |
1925 | نالت الدكتوراه بأطروحة حول البولونيوم |
1926 | تزوجت من فريديريك جوليو |
1934 | اكتشفتا النشاط الإشعاعي الاصطناعي |
1935 | فازت مع زوجها بجائزة نوبل في الكيمياء |
1956 | أصبحت مديرة المعهد الوطني للطاقة الذرية في فرنسا |
1958 | توفيت عن عمر 58 عامًا |
اكتشافات غيرت العالم: النشاط الإشعاعي الاصطناعي
عام 1934، نجحت إيرين وزوجها في تحقيق اكتشاف ثوري: تحويل عناصر غير مشعة إلى عناصر مشعة اصطناعيًا عبر قصفها بجسيمات ألفا. تمكنوا من تحويل الألمنيوم إلى فسفور مشع، وهي أول مرة في التاريخ يُبتكر فيها عنصر مشع “صناعيًا”.
كان هذا الاكتشاف نقطة تحول في عالم الكيمياء النووية، إذ لم يعد الإشعاع حكرًا على العناصر الطبيعية النادرة مثل الراديوم، بل صار بالإمكان “صنع” إشعاع في المختبر.
اكتشاف النشاط الإشعاعي الاصطناعي يفتح الطريق لفهم أعمق لبنية الذرة.
(مؤسسة نوبل، 1935)
لحظة نوبل: التكريم المستحق
في 10 ديسمبر 1935، مُنحت إيرين جوليو-كوري وزوجها جائزة نوبل في الكيمياء، “اعترافًا بخدماتهما المشتركة في توليد عناصر مشعة جديدة”، وفقًا لبيان لجنة نوبل. هذا التكريم لم يكن فقط تكليلًا لإنجازهما العلمي، بل رمزية قوية: ماري كوري حصلت على نوبل مرتين، وها هي ابنتها وزوجها يواصلان الإرث.
الخبر أحدث ضجة عالمية، وظهرت إيرين على أغلفة المجلات العلمية الكبرى. كتبت عنها Nature: “إيرين ليست ظل والدتها، بل نورٌ علميٌ جديد يشع من قلب الذرة.”
التحديات: حين يصبح العلم معركة
لم تكن رحلة إيرين خالية من العقبات. كامرأة في عالمٍ ذكوري، واجهت الشك والتقليل. كما كانت محط جدل سياسي، إذ انخرطت في دعم القضايا العمالية والنسوية، مما عرّضها للرقابة.
عانت صحيًا من التعرض الطويل للإشعاع، تمامًا كما حدث مع والدتها، لكنها لم تتوقف. بل كانت تقول دائمًا:
العلم ليس مهنة، إنه التزام تجاه الإنسانية.
الجوائز والإرث العلمي
بجانب جائزة نوبل، حصلت على:
- وسام الشرف الفرنسي (Légion d’honneur).
- عضوية الأكاديمية الفرنسية للعلوم.
- رئاسة المعهد الوطني للطاقة الذرية الفرنسي.
وقد نشرت عشرات الأوراق البحثية، وساهمت في تأسيس أول مفاعل نووي فرنسي.
روح خلف الإنجاز
رغم عبقريتها العلمية، لم تكن إيرين بعيدة عن الناس. دعمت حملات التوعية ضد الحرب النووية، وساهمت في مبادرات لدعم النساء في العلوم.
قالت مرة:
لا أريد لابنتي أن تحيا في عالم يخاف العلم، بل في عالم يحتضنه ليصنع السلام.
ما بعد نوبل: نهاية جسد، خلود فكرة
استمرت إيرين في البحث العلمي حتى وفاتها في 17 مارس 1956، عن عمر 58 عامًا، بسبب مرض في الدم يُعتقد أنه ناجم عن التعرض للإشعاع. دُفنت بجوار والدتها في البانثيون، رمز التكريم الوطني في فرنسا.
وحتى اليوم، تُدرَّس إنجازاتها في مناهج الفيزياء، وتُستلهم سيرتها في كل مؤتمر يدعو إلى تمكين المرأة في العلوم.
أثر خالد: سيرة تلهم أجيالاً
من طفلة تحمل اسم والدتها في المختبرات، إلى رائدة في الكيمياء النووية، أثبتت إيرين جوليو-كوري أن العبقرية ليست وراثة فقط، بل صمودٌ ورؤيةٌ وعملٌ دؤوب. لم تكن مجرد عالِمة خلف أنابيب الاختبار، بل امرأة تحدت المجتمع، ورفعت اسم النساء في أعلى سلّم نوبل.
سيرة إيرين جوليو-كوري تذكرنا بأن نور الذرة قد يضيء العالم، إذا وُضع في يد ضمير نقي، وعقلٍ شغوف بالحق والخير.