زاوية أخرى للحياة: تأملات في كتاب محمد غنايم التحويلي

مقدمة: عندما تكون الزاوية أهم من المشهد
في زمن متسارع بالكاد يُمهل الإنسان فرصة ليفكّر أو يتأمل، وفي خضم تساؤلات متراكمة عن النجاح، الحب، الذات، المعنى… يظهر كتاب “من زاوية مختلفة” ليكون أقرب إلى مرآة فكرية هادئة، تدعونا لا إلى إجابات مباشرة، بل إلى تغيير طريقة النظر إلى الأسئلة نفسها.
الكتاب الذي صدر في 2023 ضمن سلسلة كتب تطوير الذات، هو نتاج تجربة فكرية وإنسانية عميقة لصاحبه محمد غنايم، الذي آثر أن يكون صوته في هذا العمل صوتًا متزنًا، واقعيًا، بسيطًا، لكنه في الآن ذاته ممتلئ بالمعرفة والحكمة.
لا يقدّم الكاتب وصفات سحرية، ولا ينضمّ إلى جوقة “التحفيز المبالغ فيه”، بل يدعونا إلى شيء أبسط، وأكثر تأثيرًا: أن ننظر إلى كل ما في حياتنا من زاوية مختلفة.
الفكرة الجوهرية للكتاب
هل فكّرت يومًا أن مشكلتك ليست في الفشل ذاته، بل في نظرتك إليه؟ هل مررت بتجربة فقدٍ، ثم رأيتها لاحقًا على أنها ولادة جديدة؟ هل شعرت بالخذلان من شخص ما، ثم أدركت أن السبب الحقيقي لم يكن أفعاله، بل توقعاتك أنت؟
هذه الأسئلة – وغيرها – تُشكّل نواة كتاب “من زاوية مختلفة”.
يرى غنايم أن زاوية النظر هي أصل التغيير. ليس من الضروري أن تغيّر واقعك كي تشعر بتحسّن، بل يكفي أن تغيّر تفسيرك لذلك الواقع. وهنا يكمن الفرق بين من ينهار ومن يتعلّم، بين من يتألم ومن ينمو.
وعي الزاوية: نقطة البداية
يفتتح الكاتب كتابه بفصل يُشبه التأمل الذاتي، يتحدث فيه عن “الزاوية الداخلية” التي تتشكل عبر سنوات طويلة من التفاعل مع الأهل، المدرسة، المجتمع، التجارب الشخصية. هذه الزاوية هي التي نرى من خلالها العالم، لكننا ننسى أنها ليست “الحقيقة”، بل فقط “وجهة نظر”.
ومن هنا، يدعو القارئ إلى أن يسأل نفسه:
- هل ما أؤمن به فعلاً نابع من داخلي، أم من برمجة تلقّيتها؟
- هل أنا أعيش كما أريد، أم كما يُتوقع مني؟
- هل ردود أفعالي نابعة من موقفي الحالي، أم من جراح قديمة لم ألتفت إليها؟
هذه الأسئلة تؤسس لما يشبه “خريطة الوعي”، التي يستطيع القارئ أن يعود إليها كلما شعر بالضياع أو الانفعال.
التكرار لا يعني الثبات
في فصل آخر من الكتاب، يتحدث غنايم عن ظاهرة تكرار نفس النمط في الحياة – كأن يقع الشخص دومًا في علاقات غير متوازنة، أو يخسر فرصًا متكررة، أو يُصاب بالإحباط ذاته بعد كل تجربة.
لكن المؤلف لا يعزو ذلك إلى “سوء الحظ”، بل إلى “سوء الزاوية”. نحن نظن أننا نغيّر، لكننا نغيّر التفاصيل السطحية فقط، فيما تبقى زاويتنا الداخلية (النمط الذهني والعاطفي) على حالها.
مثلًا:
- من يرى نفسه “غير كافٍ”، سيختار شريكًا لا يقدّره.
- من يخاف الفشل، سيؤجل البدء دومًا.
- من لا يغفر لنفسه، سيبقى سجين الماضي.
وهكذا، يقترح غنايم أن تكون بداية التغيير عبر مراجعة الزاوية، لا فقط الظروف.
العلاقات: كيف نحبّ من زاوية صحيحة؟
من أعمق فصول الكتاب ذلك الذي يتحدث فيه عن العلاقات. ليس لأنها محور حياتنا فقط، بل لأنها في كثير من الأحيان مرآتنا الأصدق.
يؤمن الكاتب أن علاقتنا بالآخرين – من الأهل إلى الشريك العاطفي – هي انعكاس مباشر لعلاقتنا بأنفسنا. فالشخص الذي لا يحترم ذاته، لن يطالب الآخرين باحترامه. ومن لا يعرف حدوده، لن يستطيع وضعها للآخرين.
ويفرّق غنايم بين “العطاء الناضج” و”العطاء بدافع القلق”، وبين “الاهتمام المتبادل” و”الاهتمام القائم على الخوف من الرفض”.
من زاوية مختلفة، يصبح الخذلان فرصة لفهم الذات. وتصبح الخسارة دربًا للنضج، لا فقط سببًا للانكسار.
بين الخوف والتغيير: رحلة الزاوية العكسية
في فصل يحمل طابعًا تأمليًا، يناقش الكاتب موضوع الخوف من التغيير، ويطرح سؤالًا مهمًا: لماذا يخاف الإنسان من تحسين حياته؟ أليس هذا ما نريده جميعًا؟
الجواب، بحسب غنايم، يكمن في الزاوية القديمة التي اعتدنا النظر منها لأنفسنا. فحتى الألم، إذا طال أمده، يصبح مألوفًا. وعندما نحاول تجاوزه، نشعر بالتهديد. كأننا نخرج من “منطقة الراحة” حتى لو كانت مؤلمة.
ومن هنا، تصبح مقاومة التغيير لا واعية، لكن حقيقية. ونحتاج في هذه اللحظة إلى شيء واحد: أن نغيّر الزاوية التي نرى منها أنفسنا.
التأمل بالمعرفة
يمتاز الكتاب بأسلوبه التأملي المدروس. فالمؤلف لا يلقي الأفكار دون عمق، بل يربط بين المعرفة الإنسانية، التجربة، الفهم النفسي، والموقف الروحي.
يُكثر غنايم من الأسئلة، لا الأجوبة، لأنه يرى أن طرح السؤال الصحيح أهم من تقديم إجابة جاهزة. وكل سؤال في الكتاب يبدو كمفتاح، يفتح زاوية جديدة للرؤية.
ربما لا تحتاج إلى علاج… بل إلى زاوية جديدة ترى بها نفسك.
اللغة والأسلوب: بساطة بلا سطحية
يتّسم أسلوب محمد غنايم بالهدوء والتوازن. لا توجد لغة دعائية، ولا مفردات استعراضية، بل جمل قصيرة، مباشرة، ذات إيقاع داخلي جميل، تجعل القارئ يشعر أن النص موجّه إليه شخصيًا.
تُشبه بعض الفصول مقالات قصيرة أو خواطر فكرية، لكنها مترابطة عبر خط واحد: الزاوية الداخلية. وكأن كل فصل يحاول أن ينير جانبًا خافتًا من داخل النفس.
الرسائل الرئيسية في الكتاب
- لا توجد حقيقة مطلقة، بل زوايا مختلفة.
- مشكلتك ليست في الظروف، بل في تفسيرك لها.
- السلام النفسي يبدأ من المصالحة مع الذات.
- لا يمكنك تغيير العالم… لكن يمكنك تغيير نظرتك إليه.
- العلاقات الجيدة تبدأ من علاقة جيدة مع نفسك.
- الخوف من التغيير طبيعي، لكن تجاوزه ممكن عبر الوعي.
- الألم جزء من النمو، لا نقيض له.
- الحياة ليست ثابتة، فابحث عن الزاوية المتحرّكة.
تأثير الكتاب على القارئ
من قرأ “من زاوية مختلفة” يشعر أنه دخل في حوار داخلي مع ذاته. ليس كتابًا يُقرأ مرة واحدة، بل عمل يمكن العودة إليه في لحظات التشتت، الفقد، التردّد.
وما يُميز هذا العمل أنه لا يضعك في موقع الضعيف الذي يحتاج من ينقذه، بل يريك أنك تملك المفتاح… المفتاح هو الزاوية.
أهم الاقتباسات من الكتاب
أصعب السجون ليست الجدران… بل زاوية ضيقة ترى بها نفسك.
أحيانًا لا نحتاج إلى بداية جديدة، بل إلى نظرة جديدة لنفس البداية.
من يحبك حقًا… سيراك من الزاوية التي تُشبهك، لا التي تُرضيه.
انظر إلى الحياة كما لو أنها تحاول مساعدتك… لا كأنها تحاول اختبارك.
في نقاط: لماذا تقرأ “من زاوية مختلفة”؟
- لأنه لا يدّعي امتلاك الحقيقة.
- لأنه يجمع بين التحليل النفسي والروحانية المتزنة.
- لأنه يُعلّمك كيف تلاحظ نفسك بدلًا من أن تحاكمها.
- لأنه يُشبه صوتًا داخليًا حكيمًا، لا مدرّبًا يتحدث من المنصة.
- لأنه ببساطة… يغيّر الزاوية، فيتغيّر المشهد.
خاتمة: الزاوية ليست تفصيلًا… إنها كل شيء
عندما نُدرك أن الزاوية التي نرى منها العالم ليست قدرًا، بل خيارًا، نصبح أحرارًا. عندها فقط، نبدأ بالتحرر من الأحكام، من الخوف، من المقارنات، من الغضب غير المبرر.
“من زاوية مختلفة” ليس مجرد كتاب، بل تمرين نفسي وفكري وروحي في آنٍ واحد. إنه رحلة نحو الداخل، تهمس لنا بأننا لا نحتاج دائمًا لتغيير العالم… بل فقط لتغيير الطريقة التي ننظر بها إليه.
ومن بين صفحات هذا العمل، يعلو صوت محمد غنايم ليقول:
في كل تجربة تمرّ بها… زاوية تنقذك. ابحث عنها.
لمعرفة المزيد: زاوية أخرى للحياة: تأملات في كتاب محمد غنايم التحويلي