هنري هاليت ديل: الرجل الذي همس للأعصاب

✦ المقدمة: من وراء اكتشاف “الرسالة الكيميائية” في الجهاز العصبي؟
في عالم يلهث خلف الاكتشافات الكبرى في الطب وعلم الأعصاب، يقف اسم هنري هاليت ديل شامخًا كأحد الروّاد الأوائل الذين غيّروا فهم البشرية لكيفية عمل الجهاز العصبي. لم يكن مجرد طبيب أو عالم في مختبر، بل رجل جمع بين الذكاء الفذّ، والدقة المعملية، والبصيرة الإنسانية.
عُرف بأنه مكتشف الدور الكيميائي للأستيل كولين في نقل الإشارات العصبية، وهو الإنجاز الذي استحق عليه جائزة نوبل في الطب عام 1936. ولكن خلف هذا الإنجاز تقبع قصة ملهمة… قصة رجل عاش من أجل العلم، وترك إرثًا يتردد صداه في كل عيادة وكل معمل إلى يومنا هذا.
✦ النشأة والتكوين: بدايات إنجليزية هادئة
وُلد هنري هاليت ديل في الثالث من يونيو عام 1875، في منطقة إيسلينغتون، شمال لندن، لأسرة إنجليزية متوسطة تنتمي إلى الطبقة المتعلمة. والده “تشارلز ديل” كان رجل دين بروتستانتيًا، ومنه اكتسب هنري حب المعرفة والانضباط. أما والدته، فكانت ذات اهتمام بالأدب والفلسفة، ما أضفى على هنري حسًا إنسانيًا واضحًا منذ الطفولة.
في صغره، عُرف هنري بفضوله الكبير، وكان يقضي ساعات وهو يتأمل سلوك الحشرات ويجمع الأعشاب والنباتات، ويجرب تركيب السوائل في أوعية المطبخ، ما دفع عائلته إلى تشجيعه على دراسة العلوم.
✦ التعليم وبداية التكوين المهني: الطب أولًا… ثم الفسيولوجيا
التحق ديل بمدرسة “ليتون بارك” ثم انتقل إلى جامعة كمبردج، حيث حصل على درجة البكالوريوس في العلوم، ثم نال درجة الطب من كلية سانت بارثولوميو بجامعة لندن. ولكن شغفه الحقيقي لم يكن في علاج المرضى فحسب، بل في فهم آلية عمل الجسد الإنساني بدقة، خاصة الجهاز العصبي.
في مطلع القرن العشرين، بدأ ديل العمل في معهد ويلكوم للأبحاث، وهناك وجد بيئة غنية للدراسة والتجريب. تحت إشراف عالم الأدوية الشهير جون لانغلي، بدأ يضع قدمه في عالم الفسيولوجيا العصبية.
✦ الانطلاقة المهنية والتحديات الأولى
خلال أوائل القرن العشرين، لم يكن من السهل الخوض في موضوع “نقل الإشارات العصبية”، إذ كانت المدرسة السائدة آنذاك تؤمن بأن النقل العصبي يتم بالكهرباء فقط. وقد تطلّب الأمر جرأة علمية نادرة من ديل ليقترح أن هناك “مواد كيميائية” تلعب دورًا في هذا النقل.
في عام 1914، توصّل ديل إلى اكتشاف وجود مادة كيميائية تُفرز من الأعصاب وتُحدث استجابة عضلية، أطلق عليها اسم “أستيل كولين” (Acetylcholine). في البداية، قوبل اكتشافه بكثير من الشك، إذ خالف ما كان يؤمن به كبار علماء الأعصاب حينها.
“أحيانًا، عليك أن تُقنع العالم بما يراه واضحًا تحت المجهر، لأنه لا يتفق مع ما في الكتب.” – هنري ديل
✦ الإنجازات الكبرى: اكتشاف الأستيل كولين وتغيير مسار علم الأعصاب
شكلت أبحاث ديل، بالتعاون مع النمساوي أوتو لووي (Otto Loewi)، تحولًا جذريًا في فهم الجهاز العصبي. أثبت العالمان أن نقل الإشارات من عصب إلى آخر يتم عبر مواد كيميائية، وليس كهربائيًا فقط.
هذا الاكتشاف فتح الباب أمام عصر الأدوية العصبية الحديثة، وساهم في تطوير علاجات لعدة أمراض مثل الزهايمر، الاكتئاب، الشلل الرعاش، وأمراض الأعصاب الطرفية.
في عام 1936، حصل ديل ولووي على جائزة نوبل في الطب أو علم وظائف الأعضاء “تقديرًا لاكتشافاتهما المتعلقة بالنقل الكيميائي للنبضات العصبية”.
“قبل ديل، كنا نظن أن الأعصاب تصرخ بالكهرباء. بعده، أدركنا أنها تهمس بالكيمياء.” – المؤرخ الطبي توماس سيلفر
✦ التكريمات والجوائز الكبرى
- 🏅 جائزة نوبل في الطب (1936)
- 🏅 وسام الاستحقاق البريطاني (Order of Merit)
- 🏅 رئاسة الجمعية الملكية البريطانية (1940–1945)
- 🏅 وسام فارس الإمبراطورية البريطانية
- 🎓 نال الدكتوراه الفخرية من عدة جامعات كبرى بينها أوكسفورد وهارفارد.
✦ التحديات والمواقف الإنسانية
لم يكن طريق هنري ديل مفروشًا بالورود. فقد عانى من الاستخفاف العلمي، والرفض الأولي لأفكاره، والضغوط السياسية خلال الحرب العالمية الثانية.
أثناء الحرب، لعب ديل دورًا في حماية العلماء اللاجئين من ألمانيا النازية، وكان له موقف إنساني حاسم في مساعدة زملائه اليهود على الهجرة إلى بريطانيا واستكمال أبحاثهم.
✦ الإرث والتأثير المستمر
ما يزال تأثير ديل حاضرًا في كل كتاب أدوية، وفي كل علاج يُوصف لأمراض الأعصاب. ويكاد لا يخلو منه أي منهج طبي أو مقال علمي يناقش النقل العصبي.
حتى اليوم، يُستخدم الأستيل كولين كنموذج أساسي لفهم باقي الناقلات العصبية، مثل الدوبامين، السيروتونين، والنورإبينفرين.
“سيرة هنري هاليت ديل لا تختصر في اكتشاف، بل هي مدرسة في التواضع العلمي، والتفكير الحر، والإنسانية.” – البروفيسور جيمس نورث