سيرة حياة الظاهر بيبرس
نشأ بيبرس البندقداري عبدًا في إحدى أسواق العبيد في مدينة حماة، بعد أن جُلِب من إحدى مناطق كازاخستان ليباع لأحد أمراء الدولة الأيوبية، التي نشطت في شراء العبيد القادمين من بلاد الترك والشركس وروسيا وآسيا الوسطى، لتجنيدهم في الجيش، ولإنشاء قوةٍ عسكريةٍ منهم يكون ولاؤها للسلطان الأيوبي أو لأحد ولاته، وذلك لوجود الخطر الصليبي الذي يهدد الأمة، ويحتاج لإعداد جيشٍ إسلامي متمرسٍ ومخلص لمجابهته.
وقد التحق بيبرس بخدمة الأيوبيين بعد أن اشتراه الأمير علاء الدين البندقداري، الذي صُودِرتْ أمواله وممتلكاته ونقلتْ إلى مصر، ومن بينها بيبرس الذي أُلحق بالجيش، وسرعان ما ترقَّى في المناصب لقوته وبراعته في القتال حتى نال الحظوة عند السلطان نجم الدين أيوب، الذي أعتقه ومنحه لقب الأمير ليصبح واحدًا من المماليك البحرية، الذين عُرفوا بقوتهم وبسالتهم بالحرب، وشدة ولائهم للسلطان، وقد أطلق عليه السلطان لقب ركن الدين، لِما رأى فيه من الإقدام والشجاعة.
الظاهر بيبرس ودوره في التصدي للحملة الصليبية السابعة
بدأت أوروبا تعدُّ العُدَّة لمهاجمة العالم الإسلامي في حملة صليبية جديدة، وقد تصدى لقيادتها الملك لويس التاسع ملك فرنسا، وقرر غزو معقل الإسلام ومركز الأيوبيين المتمثل بمصر، على خلاف باقي الحملات الصليبية التي كانت تتوجه نحو فلسطين والشام، إذ إنه أدرك أن مركز القوة الإسلامي يكمن في مصر، وأن احتلالها سيكسر شوكة المسلمين، فتوجَّه بجيشه نحو مدينة دمياط، ونزل بها بعد أن دمر الحامية الإسلامية، وارتكب جيشه مجزرةً بحق المسلمين، في ذلك الوقت كان السلطان الأيوبي نجم الدين أيوب يصارع المرض، فتوجه بجيشه نحو دمياط، وأوكل القيادة لوزيره فخر الدين يوسف، ولقائد الجيش وزعيم المماليك البحرية فارس الدين أقطاي، لتدور معركةٌ كبرى عُرفت بمعركة المنصورة، قُتل خلالها فخر الدين، وهُزِم المسلمون بادئ الأمر، لا سيما بعد أن تسرَّب نبأ موت السلطان نجم الدين أيوب، فانسحبوا نحو مدينة المنصورة بعد أن خسروا معسكرهم وقائدهم فخر الدين، وفي المنصورة تولى فارس الدين أقطاي قيادة الجيش، وأشار عليه بيبرس البندقداري بخطةٍ عسكرية، مفادها فتحُ أحد أبواب المدينة للصليبيين، والاختفاء داخلها ريثما يندفع الجيش الصليبي إلى الداخل، وتعجُّ بهم الطرقات والأزقة الضيقة، وعندئذٍ ينقضُّ عليه الجيش وأهالي المدينة، وحتى لا ينسحب الصليبيون أشار بيبرس إلى سدِّ المخرج بعد دخولهم.
وكان لِخطَّة بيبرس عظيم الأثر على سير المعركة، فقد دخل الصليبيون المدينة مندفعين بلا حذر، معتقدين أنَّ المدينة خاليةٌ من سكانها، لكنهم وقعوا في فخ المماليك، فأُبيد الجيش الصليبي، وأُسر ملِكه لويس التاسع واقتِيد إلى القاهرة، وأُفرج عنه بعدما دُفعت فديته، وأمر بالجلاء عن المنصورة لتنتهي الحملة الصليبية السابعة بفشلٍ تام، ليسْطع نجم المماليك البحرية بمعية الأمير ركن الدين بيبرس، الذي استطاع بخطته تدمير الجيش الصليبي وأسْر أول ملكٍ إفرنجي بعد معركة حطين.
حياة بيبرس في مصر حتى خروجه إلى الشام
بعد انتهاء الحرب مع الصليبيين وأسْر الملك لويس كان (توران شاه) بن الملك الصالح نجم الدين أيوب قد اعتلى عرش السلطنة، وقد أظهر من أول أيام حكمه عداوته للمماليك، وبالأخص بيبرس، فبدأ بإبعادهم عن مجلسه، وأخذ يدبر الأمر للتخلص منهم ومن زوجة أبيه شجرة الدر التي أخفت خبر موته وتولت الحكم مع فخر الدين في غيابه، لكن المماليك ضاقوا به ذرعًا، فانتظروا خروجه لينفردوا به، فقتلوه في فارسكور، ونصبوا شجرة الدر سلطانةً عليهم، الأمر الذي أحدث ضجةً في العالم الإسلامي إذ لم يسبق أن حكمت امرأةٌ المسلمين قبل ذلك بشكلٍ مباشر، الأمر الذي رفضه الأمراء الأيوبيون في الشام، وأرسلوا إلى الخليفة العباسي المستعصم بالله يطالبونه بالبت في الأمر، وقد كان قراره يماثل رأيهم في عدم جواز تولي امرأةٍ أمر المسلمين، فقررت شجرة الدر أن تحكُم في الخفاء، وذلك بالزواج من أحد الأمراء المماليك، فاختارت عز الدين أيبك، وسلَّمته السلطنة، الأمر الذي أشعل حربًا بين الملِك الناصر صاحب دمشق والمماليك، إذ زحف جيش الملك الناصر نحو مصر، لكنه هزم على يد عز الدين أيبك.
وبعد انتصار المماليك بدأ عز الدين بالتخلي عن المماليك البحرية، وإنشاء ما يُعرف بـ (المماليك المعزية)، الذين يقدمون الولاء له، وذلك لتقليص نفوذهم بوصفهم أنصار شجرة الدر، ولكي يقضي عليهم أوقع بقائدهم فارس الدين أقطاي، وأمر سيف الدين قطز بقتله، الأمر الذي أدى إلى تشتت المماليك البحرية وهروبهم نحو الشام، ومنهم ركن الدين بيبرس وسيف الدين قلاوون، الذين بدأوا يبحثون عن ملك يدخلون تحت خدمته، فدخلوا تحت خدمة الملك الناصر، وحرَّضوه على محاربة عز الدين أيبك، فأعد جيشًا لغزوها لكنه اتفق مع أيبك فيما بعد، وعُقد صلحٌ بينهما نصَّ على إبعاد المماليك البحرية عن الجيش الأيوبي، فانتقل بيبرس لخدمة المغيث عمر صاحب الكرك، وحاولوا الإغارة على مصر بقيادة بيبرس، لكنهم فشلوا، فهاجموا غزة انتقامًا من الملك الناصر الذي طاردهم وحاصرهم في الكرك، وانتهى الأمر باستسلام المماليك له، فأرسلهم إلى سجن حلب، وعفا عن بيبرس، وأبقاه بقربه ومنحه نابلس ليحكمها، لكن في ذلك الوقت وقع اتفاقٌ بين الملك الناصر وعز الدين أيبك بواسطة الوزير ابن العلقمي، واتفق الاثنان على وقف القتال، ومنْح الملك الناصر فلسطين، وبذلك توقف القتال بين الطرفين في الوقت الذي داهمت جحافل المغول الأراضي الإسلامية.
دور الظاهر بيبرس في هزيمة المغول
تعرَّض العالم الإسلامي لغزوٍ مدمر عرف بالغزو المغولي، إذ اكتسحت الجيوش التتارية البلاد الإسلامية، ووصلوا إلى عاصمة الخلافة الإسلامية بغداد، وأسروا الخليفة وأولاده، ومن ثم قتلوهم وارتكبوا مجزرةً بحق أهل بغداد، و توجهوا إلى حلب واحتلوها، وقاموا بحرقها وتدميرها، الأمر الذي دفع الملك الناصر إلى حشد جيشه لمقاتلة المغول، لكنه كان مترددًا في ذلك، فحاول بيبرس والمماليك البحرية الانقلاب عليه وتولية أخيه، لكنه هرب منهم، واحتمى بقلعة دمشق، فتفرق الجيش، وانسحب المماليك نحو غزة، واتصلوا بالسلطان المظفر قطز الذي صعد لحكم مصر بعد خلع علي بن أيبك، فوافق على قدومهم، واستقبل بيبرس وأقطعه أرض قليوب، وأمره بإعداد الجيش للقتال، فأعدّ القوات للحرب، وجهّز خطةً عسكرية لهزيمة المغول، تتضمن أن يقود طليعةً كبيرةً من الجيش، وتسبقه بمسافةِ يوم على الأقل، وذلك إذا شاهدتهم عيون المغول ظنوا أنهم الجيش كله، وقد نجحت خطة بيبرس، إذ تقدم مسرعًا نحو غزة، والتقى بحاميةٍ للمغول فيها وأبادها، الأمر الذي استفزّ القائد المغولي (كتبغا)، فاندفع بكامل الجيش المغولي نحو بيبرس الذي انسحب أمام المغول حتى أوقع بهم في كمينٍ أعدّه مع قطز، فبعد أن توغَّل المغول في مطاردة مقدمة الجيش التي يقودها بيبرس، طوق باقي الجيش المملوكي المغول وأطبقوا عليه فأبادوه بشكلٍ كامل.
ومن ثم انطلق الجيش تجاه دمشق، ودخلها، ليتوجه بيبرس بقواته السريعة لتحرير حماة وحلب وباقي الديار الإسلامية، وبعد ذلك عاد ليلتحق بقطز في طريق العودة إلى مصر كي يتمكن من قتله والسيطرة على الحكم، وقد استطاع بيبرس ذلك ووصل إلى القاهرة ليعتلي عرش السلطنة، ولُقِّب بالملك القاهر، لكنه تخلى عن هذا اللقب، وتسمى بالملك الظاهر، وبدأ بإصلاح الوضع الدّاخلي للدولة، وبعد ذلك عاد لمقاومة المغول والقضاء عليهم، وأنزل بهم هزيمةً ساحقة قرب (قيسارية) بعد تحالفهم مع سلاجقة الروم، بذلك أبعد بيبرس الخطر المغولي فترةً من الزمن، ليتفرغ لإعادة إعمار البلاد وترميم المدن والقلاع، لكن أبرز إنجازاته كانت إعادة إحياء الخلافة العباسية في مصر، بعد نقلها إلى القاهرة، وتحريره لإمارة أنطاكيا مقلصًا الوجود الصليبي في الشام، وقد بقي بيبرس في الحكم حتى عام 676ه،ـ إذ توفي ودفن في دمشق.
المصدر:موقع تبيان