سير

أبو مسلم الخولاني: زاهد التابعين وبطل الإيمان

 

مقدمة

في التاريخ الإسلامي، يبرز عدد من الأسماء التي لم تكن من الصحابة، لكنهم عُرفوا بتقواهم وورعهم ومواقفهم البطولية. ومن بين هؤلاء التابعين الذين خلد التاريخ أسماءهم، يبرز اسم أبو مسلم الخولاني، واسمه الحقيقي عبد الله بن ثوب الخولاني، أحد كبار الزهاد في الإسلام، ومن أوائل من واجهوا مدّعي النبوة بعد وفاة النبي محمد ﷺ.

يتميز أبو مسلم الخولاني بسيرته الفريدة التي جمعت بين الزهد، والعلم، والثبات على العقيدة، والجهاد في سبيل الله، وكان له مواقف عظيمة مع الصحابة والخلفاء والولاة في عصره. في هذا المقال نستعرض سيرة حياته، ومواقفه، وفضائله، في أكثر من ألف كلمة، لنكشف كيف تحوّل هذا التابعي من شخصية مغمورة إلى رمز من رموز الإيمان والصدق في التاريخ الإسلامي.

نسبه ونشأته

هو عبد الله بن ثوب، ويُكنى أبو مسلم الخولاني، نسبة إلى قبيلة خولان اليمانية. وُلد ونشأ في اليمن، في فترة كانت لا تزال فيها الدعوة الإسلامية تنتشر، وكان من أوائل من أسلموا من أهل اليمن في أواخر حياة النبي محمد ﷺ. إلا أن أبا مسلم لم يحظَ بشرف رؤية النبي، وبالتالي لم يُعد من الصحابة بل من التابعين.

نشأ في بيئة يُسيطر عليها نفوذ الكهان ومدّعي النبوة، وكان يتمتع بشخصية قوية وإيمان راسخ أهّله لاحقًا ليكون من أبرز من وقفوا في وجه الدجالين، وعلى رأسهم الأسود العنسي.

موقفه مع الأسود العنسي

من أشهر وأعظم المواقف التي خلدت اسم أبي مسلم في التاريخ الإسلامي، وقوفه أمام الأسود العنسي، الذي ادّعى النبوة في اليمن قبيل وفاة النبي محمد ﷺ. رفض أبو مسلم الاعتراف بنبوة الأسود، وأصر على التمسك بدينه، فحاول الأسود أن يُرغمه على التراجع وتهديده بالحرق، لكنه صمد.

فأمر الأسود بإلقائه في النار، وأُلقي فيها بالفعل، لكن النار لم تؤذه، وخرج منها سالمًا بقدرة الله، في مشهد يذكرنا بقصة النبي إبراهيم عليه السلام حين أُلقى في النار ولم تحرقه.

عُرفت هذه الحادثة وانتشرت، فأمره الأسود بالخروج من اليمن. فتوجّه أبو مسلم إلى المدينة المنورة، حيث استقبله الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال مقولته المشهورة:
“الحمد لله الذي لم يُمتني حتى أراني في أمة محمد من فُعل به كما فُعل بإبراهيم الخليل.”

رحلته إلى المدينة وعلاقته بالصحابة

وصل أبو مسلم إلى المدينة المنورة بعد وفاة النبي محمد ﷺ، وبدأ بالتواصل مع كبار الصحابة، وعلى رأسهم عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وغيرهم من أعلام الأمة. تأثر أبو مسلم بهؤلاء الصحابة ونهل من علومهم ومعارفهم، وكان يرافقهم في الغزوات والمجالس العلمية.

توطدت علاقته بعمر بن الخطاب، الذي كان يقدّره كثيرًا، حتى إنه كان يزوره في بيته، ويستمع إلى مواعظه.

في بلاد الشام

استقر أبو مسلم الخولاني في بلاد الشام بعد فتحها، وخاصة في مدينة داريا القريبة من دمشق، وهناك كان من أبرز العلماء والزهاد، وكان يُعرف بين الناس بورعه وزهده وشدة عبادته.

عاش في عهد الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان وكان له تأثير كبير في المجتمع الشامي، حيث كان يلقي الدروس والمواعظ، ويُربّي الناس على الإخلاص والتقوى.

عبادته وزهده

كان أبو مسلم معروفًا بكثرة عبادته وشدّتها. فقد ذُكر عنه أنه كان يقوم الليل حتى تتورم قدماه، وكان يصوم أغلب أيام السنة، ويختم القرآن كل ثلاث ليالٍ.

ومن شدّة حرصه على العبادة، كان يعلّق سوطًا في المسجد، فإذا شعر بالكسل في العبادة ضرب به ساقه، ويقول: “أنا أولى بهذا من البهائم.” وكان يقول: “لو رأيت الجنة عيانًا أو النار، ما كان عندي مستزاد في العبادة.”

كراماته

تعددت الروايات التي تُنسب إلى أبي مسلم كرامات خاصة تدل على صدقه وتوكله على الله، ومنها:

1. حادثة النار:

كما سبق وذكرنا، فإن نجاته من نار الأسود العنسي كانت من أعظم الكرامات في حياته.

2. السير على الماء:

ذُكر أنه عند عبوره نهر دجلة في إحدى الفتوحات، لم يجد وسيلة للعبور، فتوضأ وصلّى، ثم مشى على الماء دون أن يغرق، وقال:
“يا رب، أنت قلت: ﴿ومن يتوكل على الله فهو حسبه﴾، فحسبنا الله ونعم الوكيل.”

موقفه من الفتن ومقتل عثمان

بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، انقسم المسلمون، وظهرت الفتنة الكبرى، وكان لأبي مسلم موقف واضح؛ حيث كان من الداعين للقصاص من قتلة عثمان، ووقف مع أهل الشام في المطالبة بمحاكمة القتلة.

حمل أبو مسلم قميص عثمان الملطخ بالدماء، وطاف به في الشام، وخطب الناس داعيًا للثأر من القتلة. كما توجّه إلى الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وطلب منه تسليم القتلة، لكن حين لم يستجب له، عاد إلى الشام وانضم إلى صفوف معاوية.

رغم هذا، لم يكن من محبّي القتال، وكان دائم الحزن على الانقسام بين المسلمين، ويدعوهم إلى الرجوع إلى الدين والاتحاد.

وفاته

توفي أبو مسلم الخولاني رحمه الله في داريا بالشام سنة 62 هـ، ودفن فيها، وقد نعاه أهل الشام وودعوه وداع العلماء العظماء.

ظل اسمه خالدًا في كتب السير والتراجم، وكتب عنه العلماء وأشادوا بزهده وورعه، وجعلوه من رموز التابعين.

مكانته في الإسلام

احتل أبو مسلم الخولاني مكانة عظيمة بين العلماء والزهاد، ومن أقوال العلماء فيه:

  • قال عنه الذهبي:
    “من أئمة التابعين، وعابد أهل الشام، له مواقف ومقامات.”
  • وذكره ابن كثير في البداية والنهاية وخصه بترجمة مطولة، وقال:
    “كان ممن يُضرب بهم المثل في الزهد والخوف من الله.”

خاتمة

يُعد أبو مسلم الخولاني أحد أعمدة التابعين الذين نقلوا شعلة الإيمان من الصحابة إلى الأجيال التالية، فكان مثالًا في الإخلاص، والصبر، والزهد، والثبات على الدين في وجه الظلم والادّعاءات الباطلة. ترك وراءه تراثًا غنيًا من العبر، وسيرةً ناصعةً تستحق أن تُروى وتُدرّس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى