إدوين ماكميلان: رائد العناصر المولودة من الذرة

المقدمة: شرارة العلم التي غيرت وجه العالم
في النصف الأول من القرن العشرين، كانت البشرية على موعد مع اكتشافات هزّت أسس الفيزياء والكيمياء، وفتحت أبوابًا جديدة أمام الطاقة الذرية. وسط هذا الزخم العلمي، لمع اسم إدوين ماكميلان (Edwin Mattison McMillan)، الرجل الذي مدّ حدود الجدول الدوري إلى ما بعد اليورانيوم، مكتشفًا العنصر رقم 93: النبتونيوم (Neptunium)، ليكون أول عنصر اصطناعي يُضاف إلى الجدول بعد اكتشاف العناصر الطبيعية.
لم يكن ماكميلان مجرد عالم في المختبر، بل كان رمزًا للإصرار العلمي والتعاون الإنساني الذي يجمع بين العقول في سبيل المعرفة.
النشأة والتكوين: الطفولة بين الفكر والانضباط
وُلد إدوين ماكميلان في 18 سبتمبر عام 1907 في مدينة ريد بلاف (Red Bluff) بولاية كاليفورنيا الأمريكية. كان والده طبيبًا ناجحًا، مما وفر للأسرة بيئة مستقرة وداعمة، بينما ورث عن والدته الميل إلى الدقة والتنظيم.
منذ صغره، أظهر إدوين شغفًا واضحًا بالعلوم والأرقام، وكان يمضي ساعات في تفكيك الأدوات الميكانيكية ومحاولة فهم كيفية عملها. كان ذلك الميل الطفولي نحو “استكشاف المجهول” هو النواة الأولى للعالم الذي سيغير مفهومنا عن المادة والطاقة.
في مرحلة المراهقة، تأثر كثيرًا ببيئة كاليفورنيا المفعمة بالتطور التقني في بدايات القرن العشرين، حيث كانت موجة التقدم الصناعي والعلمي تجتاح الولايات المتحدة. يقول أحد زملائه لاحقًا في جامعة بيركلي:
“كان ماكميلان يرى في كل ظاهرة فيزيائية لغزًا ينتظر الحل، لا معجزة تستعصي على الفهم.”
التعليم وبداية التكوين المهني
التحق إدوين بجامعة كاليفورنيا في بيركلي (UC Berkeley)، التي كانت آنذاك مركزًا علميًا متقدمًا في مجالي الفيزياء والكيمياء. حصل على درجة البكالوريوس في الفيزياء عام 1928، ثم الماجستير في العام التالي، ليكمل مسيرته الأكاديمية بالحصول على الدكتوراه من جامعة برينستون (Princeton) عام 1932.
في أثناء دراسته العليا، أبدى اهتمامًا خاصًا بالأبحاث النووية الحديثة آنذاك، خاصة بعد اكتشاف النيوترون عام 1932 على يد جيمس تشادويك، وهو الاكتشاف الذي سيفتح أبوابًا جديدة للبحث النووي.
بعد نيله الدكتوراه، عاد إلى بيركلي ليعمل باحثًا في مختبر الإشعاع التابع لإرنست لورنس (Lawrence Radiation Laboratory)، وهناك بدأت قصته الحقيقية مع العلم.
الانطلاقة المهنية والتحديات الأولى
في ثلاثينيات القرن العشرين، كانت الأبحاث النووية في بداياتها، وكانت الأسئلة أكثر من الإجابات. تعاون ماكميلان مع زميله إرنست لورنس في تطوير أجهزة السيكلوترون (Cyclotron)، وهو مسرّع للجسيمات كان من أعظم أدوات الفيزياء في القرن العشرين.
لم يكن الطريق سهلًا، إذ واجه ماكميلان تحديات تقنية ومادية كبيرة؛ فالتجارب كانت تحتاج إلى تمويل ضخم ودقة متناهية. لكنه، بعزيمته وصبره، نجح في تحسين أداء السيكلوترون بحيث أصبح قادرًا على تسريع الجسيمات إلى طاقات غير مسبوقة.
في عام 1940، حقق ماكميلان أحد أعظم إنجازاته العلمية حين اكتشف مع زميله فيليب هـ. أبيلسون (Philip H. Abelson) العنصر الجديد نبتونيوم (Neptunium)، وهو أول عنصر يتجاوز اليورانيوم في الجدول الدوري. بذلك، فتحا الباب أمام اكتشافات لاحقة للعناصر الثقيلة مثل البلوتونيوم والأميريسيوم.
الإنجازات الرئيسية والأثر العالمي
أحدث اكتشاف النبتونيوم (العنصر 93) ثورة علمية؛ إذ أثبت أن الجدول الدوري للعناصر لم يكتمل بعد، وأن الإنسان قادر على خلق عناصر جديدة في المختبر.
لم يكن الإنجاز مجرد إضافة رقم جديد إلى الجدول الدوري، بل كان تأكيدًا على أن الذرة يمكن إعادة تشكيلها، وأن حدود المادة لم تعد نهائية.
ثم واصل ماكميلان عمله في تطوير المسرّعات النووية، وكان له دور محوري في تصميم ما عُرف لاحقًا باسم السِنكروترون (Synchrotron)، وهو جهاز أحدث نقلة في دراسة الجسيمات دون الذرية.
كما شارك خلال الحرب العالمية الثانية في مشروع تطوير الأسلحة النووية، لكنّه بعد الحرب دعا بقوة إلى الاستخدام السلمي للطاقة الذرية، مؤكدًا أن العلم يجب أن يخدم الإنسان لا أن يدمّره.
“لقد علّمتنا الذرة درسًا عظيمًا: القوة في يد الإنسان تحتاج دومًا إلى حكمة.” – إدوين ماكميلان
التكريمات والجوائز الكبرى
في عام 1951، تقاسم إدوين ماكميلان جائزة نوبل في الكيمياء مع زميله غلين تي. سيبورغ (Glenn T. Seaborg) “لاكتشافهما العناصر ما بعد اليورانيوم في الجدول الدوري”. كانت تلك الجائزة تتويجًا لمسيرة علمية امتدت لعقود من العمل الدؤوب والبحث العميق.
حصل أيضًا على عدد من الأوسمة والتكريمات، من بينها:
- وسام فرانكلين عام 1951.
- وسام العلوم الوطنية الأمريكية.
- عضوية الأكاديمية الوطنية للعلوم.
كان فوزه بنوبل لحظة فارقة في تاريخ الكيمياء النووية، إذ أثبت أن التعاون بين العلماء – لا المنافسة – هو الطريق إلى أعظم الاكتشافات.
التحديات والمواقف الإنسانية
رغم عبقريته العلمية، واجه ماكميلان صراعات نفسية وأخلاقية بعد الحرب العالمية الثانية، بسبب مشاركته غير المباشرة في مشروع مانهاتن الذي أفضى إلى القنبلة الذرية.
اختار بعد ذلك أن يكرّس حياته للبحث العلمي السلمي، وعمل بجد لتطوير تطبيقات الطاقة الذرية في مجالات الطب والزراعة.
وكان من أكثر المواقف إنسانية في سيرته أنه رفض عروضًا مغرية من شركات السلاح، مفضّلًا البقاء في الجامعة لتعليم الجيل الجديد من العلماء. وقد قال في إحدى محاضراته عام 1956:
“إن أخطر ما يواجه العلماء ليس الجهل، بل إساءة استخدام المعرفة.”
الإرث والتأثير المستمر
ترك إدوين ماكميلان بصمة لا تُمحى في تاريخ الفيزياء والكيمياء الحديثة. فبفضله وفضل زملائه، عرف العالم أن الجدول الدوري ليس مجرد قائمة مغلقة، بل نظام متجدد يمكن أن ينمو مع توسع فهم الإنسان للمادة.
كانت اكتشافاته الأساس الذي بُنيت عليه الأبحاث النووية اللاحقة، وأسهمت في تطوير تقنيات الطاقة النووية، والعلاجات الإشعاعية في الطب، وحتى في فهمنا لتركيب النجوم والعناصر في الفضاء.
توفي إدوين ماكميلان في 7 سبتمبر 1991، عن عمر ناهز 83 عامًا، بعد حياة حافلة بالعلم والعمل والرسائل الأخلاقية العميقة التي ربطت بين المعرفة والمسؤولية.
الجانب الإنساني والشخصي
عرف ماكميلان بحياته الهادئة وزواجه المتين من Elsie McMillan، التي كانت داعمته الدائمة وشريكته في كثير من الرحلات البحثية والمؤتمرات.
كان محبًّا للموسيقى الكلاسيكية والبحر، ويقول المقربون منه إنه كان يجد في الإبحار ملاذًا للتأمل في عظمة الكون.
كما ساهم في إطلاق برامج لدعم الباحثين الشباب في جامعة بيركلي، مؤكدًا أن الاستثمار في العقول هو أثمن ما يمكن أن يقدمه الإنسان للبشرية.
الخاتمة: الدروس المستفادة والإلهام
قصة إدوين ماكميلان ليست فقط سيرة عالم كيمياء بارع، بل ملحمة إنسانية تُبرز كيف يمكن لشغف واحد أن يُعيد تعريف حدود المعرفة.
من طفل فضولي في كاليفورنيا إلى حامل لجائزة نوبل، شكّلت حياته رحلة من التجريب والتأمل، ومن العلم إلى الحكمة.
علمنا ماكميلان أن العلم ليس أداة للهيمنة، بل رسالة للسلام، وأن الإبداع العلمي لا يكتمل إلا حين يقترن بالمسؤولية الأخلاقية.



