السببية والصدفة في الفيزياء الحديثة: تأملات في فلسفة العلم عند ديفيد بوم

في زمنٍ تلاطمت فيه أمواج الفيزياء الكلاسيكية والكمومية، وقف العالم الفيزيائي والفيلسوف ديفيد بوم ليقدّم أحد أبرز أعماله الفكرية، كتابه “السببية والصدفة في الفيزياء الحديثة”. نُشر هذا العمل لأول مرة عام 1957 باللغة الإنجليزية تحت عنوان Causality and Chance in Modern Physics. وقد مثّل هذا الكتاب صرخة فكرية ضد السطحية الفلسفية في فهم التحولات الكبرى التي طرأت على العلم في القرن العشرين.
يمزج ديفيد بوم في هذا الكتاب بين الرؤية العلمية الدقيقة والتحليل الفلسفي العميق، في محاولة لإعادة التفكير في مفهومي “السببية” و”الاحتمال” داخل إطار العلم الحديث، خصوصًا في ميكانيكا الكم التي هزّت أسس الفيزياء النيوتونية الراسخة.
من هو ديفيد بوم؟
وُلد ديفيد بوم عام 1917 في ولاية بنسلفانيا الأمريكية. درس الفيزياء النظرية وكان من تلاميذ روبرت أوبنهايمر، ثم طوّر لاحقًا مقاربته الفلسفية في ميكانيكا الكم، ليصطدم مع التيار السائد ويضع الأسس لما يُعرف اليوم بـ”تفسير بوم” أو “الميكانيكا البومية”. هذا التفسير يُعدّ أحد البدائل الجريئة لتفسير كوبنهاغن الشائع، ويعيد للسببية مكانتها في عالم ظنّه البعض قد صار تحكمه المصادفات.
خلفية الكتاب وسياقه التاريخي
جاء الكتاب في خضمّ تحوّل جذري في طريقة فهمنا للعالم الفيزيائي. كانت الفيزياء الكلاسيكية قد ترسّخت لعقود طويلة على يد نيوتن ولايبنتز، وتفترض أن العالم محكوم بقوانين دقيقة يمكن التنبؤ بها، وأن كل ظاهرة لها سبب محدد وواضح. ثم جاءت ميكانيكا الكم لتقلب هذه الصورة رأسًا على عقب، إذ بدت غير حاسمة، مليئة بالاحتمالات، تُمكننا فقط من التنبؤ بما قد يحدث وليس ما سيحدث بالضرورة.
أثار هذا التحوّل قلق الكثير من العلماء، ومن بينهم آينشتاين الذي عبّر عن رفضه لفكرة أن “الله يلعب النرد”. أما ديفيد بوم، فقد قرر أن يعيد قراءة المشهد من جذوره، مقدمًا هذا الكتاب بوصفه محاولة لفهم ما إذا كانت الصدفة حقًا قد أصبحت جوهرية في الفيزياء، أم أن هناك سوء فهم للموضوع.
بنية الكتاب ومحتواه
يقع الكتاب في عدة فصول تناقش تطور مفاهيم السببية والاحتمال في العلم، بدءًا من الفيزياء الكلاسيكية، مرورًا بالثورة الكمومية، وانتهاءً بمقترح بوم نفسه لإعادة ترتيب المفاهيم.
1. نقد المفهوم الكلاسيكي للسببية
في البداية، ينتقد بوم المفهوم الآلي الجامد للسببية كما هو في الفيزياء النيوتونية، مؤكدًا أن هذا النموذج لم يكن أبدًا سوى تصور مبسّط عن الواقع. يرى بوم أن السبب والنتيجة ليسا دائمًا خطيين ومباشرين، بل يمكن أن تكون هناك تفاعلات أعقد، تشمل مستويات من التنظيم والارتباطات التي لا تظهر في الرؤية الكلاسيكية.
2. مفاهيم الاحتمال في ميكانيكا الكم
ثم ينتقل بوم إلى تحليل فكرة الاحتمال في ميكانيكا الكم، والتي تُقدَّم عادة على أنها أساس لا يمكن تجاوزه. يناقش تفسيرات بوهر وهايزنبرغ وبورن، ويعترض على فكرة أن قوانين الطبيعة أصبحت “صمّاء” لا تسير وفق علل يمكن فهمها.
3. الرؤية الجديدة للسببية
يطرح بوم رؤية أكثر شمولًا للسببية، حيث لا يُنظر إليها كمجرد سلسلة من الأسباب والنتائج، بل كشبكة مترابطة من العوامل التي تتفاعل في مستويات مختلفة من الواقع. ويقترح أن ميكانيكا الكم لا تنفي وجود نظام سببي، بل تشير إلى أن هذا النظام أعمق مما كنا نعتقد.
4. التأثير غير الموضعي والترابط الكلّي
واحدة من أبرز مساهمات بوم في هذا الكتاب كانت حديثه عن “الترابط غير الموضعي” (non-locality)، وهي الفكرة التي تنبأت بتجارب مثل بل لاحقًا، والتي أظهرت أن هناك تأثيرات في الطبيعة لا يمكن تفسيرها ضمن حدود المكان والزمان التقليديين. وقد مهدت هذه الفكرة للحديث عن وحدة الكون الكلية، وضرورة تجاوز الفهم الاختزالي للأشياء.
أبرز أفكار الكتاب
- الاحتمال لا يلغي السببية: الاحتمال، من وجهة نظر بوم، ليس جوهرًا للواقع بل تعبير عن جهلنا ببعض العوامل العميقة.
- العالم أكثر تعقيدًا مما تسمح به الرياضيات وحدها: الرياضيات أداة مهمة، لكنها لا تستطيع وحدها وصف التعقيد الكامل للعالم.
- الحقيقة متعددة المستويات: هناك مستويات من التنظيم في الطبيعة لا تُرى بالعين المجردة ولا تُلتقط بالتجارب المباشرة، لكنها حقيقية ومؤثرة.
أثر الكتاب في العلم والفكر
لاقى كتاب بوم صدى واسعًا، خاصة في الأوساط الفلسفية والعلمية المهتمة بتفسير ميكانيكا الكم. لقد فتح الباب لنقاشات عميقة حول الطبيعة الحقيقية للواقع، وحدود العلم، وطبيعة التفسير العلمي.
وقد أثّر أيضًا في مجالات غير الفيزياء، مثل الفلسفة، واللاهوت، وعلم النفس، حيث اقتبس كثيرون من أفكاره عن الترابط والسببية الشاملة. كما ساهم في إلهام حوارات لاحقة بين العلم والدين، وأعمال مثل حواراته الشهيرة مع كريشنامورتي.
نقاشات نقدية
لم يسلم الكتاب من الانتقادات، فقد رأى بعض الفيزيائيين أن بوم يحاول “إحياء” مفهوم السببية بشكل غير مبرر، وأن تفسيره للبنية الخفية للواقع غير قابل للاختبار التجريبي. لكن بوم دافع عن نفسه بقوله إن “الفيزياء تحتاج إلى فلسفة”، وأن الإطار الفكري لا يقل أهمية عن المعادلات.
بين السببية والحرية
يعيد الكتاب طرح سؤال فلسفي أبدي: إذا كان العالم محكومًا بالسببية، فأين الحرية؟ يفتح بوم هذا الباب بطريقة غير مباشرة، مشيرًا إلى أن الحرية يمكن أن توجد في فهمنا للأنظمة المعقدة، لا في إنكار النظام.
أهمية الكتاب اليوم
رغم مرور أكثر من ستين عامًا على صدور الكتاب، فإنه ما زال يُقرأ ويُناقش في الجامعات ومراكز البحث. وقد ألهم موجة من الفيزيائيين والفلاسفة الذين يحاولون إعادة بناء نظرة أكثر تكاملاً للواقع.
في زمن هيمنت فيه البرمجيات والخوارزميات على حياتنا، يعيدنا ديفيد بوم إلى التفكير في المعاني العميقة للعلم، والكيفية التي نرسم بها حدود المعرفة، ونسعى لكشف ما وراءها.
لمعرفة المزيد: السببية والصدفة في الفيزياء الحديثة: تأملات في فلسفة العلم عند ديفيد بوم