سير

السيرة الذاتية للفائز بجائزة نوبل "هنري دونانت": رائد الإنسانية ومؤسس الصليب الأحمر

وُلد “جان هنري دونانت” في 8 مايو عام 1828 في مدينة جنيف السويسرية، لعائلة بروتستانتية تنتمي إلى الطبقة الثرية والمهتمة بالأنشطة الخيرية والعمل الاجتماعي. نشأ في بيئة يغلب عليها الطابع الإنساني والخيري، ما شكّل جزءًا جوهريًا من شخصيته منذ سن مبكرة. كان والده، جان جاك دونانت، منخرطًا في أعمال خيرية تهدف إلى مساعدة الأيتام والمحتاجين، بينما كانت والدته تركز على رعاية المرضى والمعوزين، وهي العوامل التي أثّرت بعمق في تطور شخصية هنري الإنسانية.

 

التعليم والمؤهلات الأكاديمية

تلقى هنري دونانت تعليمه الأولي في مدارس جنيف المحلية، حيث برزت لديه مهارات التواصل والاهتمام باللغات والدراسات الدينية. لم يكن أكاديميًا تقليديًا، حيث لم يسلك طريق الدراسات الجامعية المعمّقة، إلا أنه التحق في شبابه بجمعيات شبابية مسيحية محلية مثل “الاتحاد المسيحي للشباب”، والتي كانت بمثابة منبر لنشر القيم الأخلاقية والعمل التطوعي. في عام 1849، أسّس أول فرع للاتحاد المسيحي في جنيف، وهو ما يُعدّ أول خطوة تنظيمية في مسيرته نحو العمل الإنساني الدولي.

 

بداياته المهنية وتجاربه التجارية

في خمسينيات القرن التاسع عشر، عمل هنري دونانت في شركة مصرفية، لكنه لم يجد نفسه في هذا المجال، فاتجه نحو تأسيس مشروع زراعي في الجزائر، التي كانت آنذاك مستعمرة فرنسية. وفي عام 1853، حصل على امتياز من الحكومة الفرنسية لتطوير الأراضي الزراعية في منطقة سطيف. إلا أن مشروعاته واجهت العديد من العقبات البيروقراطية، ما دفعه في عام 1859 إلى السفر إلى إيطاليا لمقابلة الإمبراطور نابليون الثالث من أجل مناقشة العقبات الإدارية.

 

لحظة التحول: معركة سولفرينو 1859

في 24 يونيو 1859، أثناء وجوده في شمال إيطاليا، تصادف وجود هنري دونانت في منطقة سولفرينو، حيث دارت واحدة من أكثر المعارك دموية بين القوات الفرنسية-السردينية والإمبراطورية النمساوية. خلّفت المعركة نحو 40 ألف قتيل وجريح، وكان مشهد ساحة القتال المليئة بالدماء والأنين كفيلًا بتغيير مجرى حياة دونانت بالكامل. أصيب بالذهول والصدمة من هول ما رآه، وبدأ على الفور بتنظيم جهود إغاثية عفوية بمساعدة القرويين المحليين، مرددًا عبارته الشهيرة: “كلنا إخوة”.

هذا الحدث المحوري دفعه إلى كتابة كتابه الأشهر “ذكرى سولفرينو” (Un souvenir de Solférino)، والذي نشره عام 1862 على نفقته الخاصة. استعرض في هذا الكتاب المأساة التي عاشها بنفسه، ودعا إلى إنشاء منظمات تطوعية محايدة لتقديم العون للجنود الجرحى، دون تمييز بين أطراف النزاع.

 

تأسيس الصليب الأحمر

أحدث الكتاب صدى واسعًا على الصعيد الأوروبي، وأدى إلى تشكيل لجنة من خمسة أفراد في جنيف عام 1863، كان دونانت من بينهم. تحوّلت هذه اللجنة لاحقًا إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر. وفي عام 1864، وبفضل جهوده الحثيثة، عُقد مؤتمر دبلوماسي في جنيف أسفر عن توقيع اتفاقية جنيف الأولى، التي ألزمت الدول المتحاربة باحترام حياة الجنود الجرحى وتوفير الرعاية الطبية لهم.

كان تأسيس الصليب الأحمر أهم إنجازات هنري دونانت، إذ وضع بذلك الأسس الأولى للقانون الإنساني الدولي، وفتح الباب أمام تعزيز الحماية الإنسانية في أوقات الحرب.

 

الصعوبات والانهيار المالي

رغم إنجازاته الإنسانية الكبرى، واجه دونانت مصاعب مالية كبيرة بسبب فشله في مشاريعه التجارية في الجزائر. أعلنت محكمة جنيف إفلاسه عام 1867، ما أدى إلى فقدانه الدعم المجتمعي، واستبعاده من اللجنة الدولية للصليب الأحمر. عاش بعد ذلك في عزلة وفقر، متنقلًا بين مدن أوروبا، إلى أن استقر أخيرًا في مدينة هايدن السويسرية.

 

إعادة اكتشافه وتكريمه بجائزة نوبل

ظل دونانت منسيًا لسنوات طويلة، حتى أُعيد اكتشافه عام 1895 من قبل الصحفي السويسري جورج بومان، الذي كتب عنه تقريرًا في مجلة ألمانية. أثار التقرير تعاطفًا عالميًا، وسرعان ما تلقّى دونانت دعمًا ماديًا ومعنويًا من مؤسسات عديدة.

وفي عام 1901، منحته الأكاديمية السويدية أول جائزة نوبل للسلام مناصفةً مع فريدريك باس، اعترافًا بمساهمته الاستثنائية في تطوير القانون الإنساني وتأسيس منظمة الصليب الأحمر. وجاء في بيان الجائزة أن دونانت “أيقظ ضمير العالم تجاه المآسي التي تخلفها الحروب، وأسس منظومة عالمية تنقذ الأرواح وتحمي الكرامة الإنسانية”.

الجوائز والتكريمات الأخرى

إلى جانب نوبل، حصل دونانت على العديد من الجوائز الفخرية، مثل وسام الاستحقاق الألماني، ووسام جوقة الشرف الفرنسي. كما نُصبت له تماثيل في عدة مدن أوروبية، وأُطلق اسمه على مستشفيات ومؤسسات طبية في سويسرا وخارجها. أدرجت اللجنة الدولية للصليب الأحمر اسمه ضمن مؤسسي الحركة الدولية للصليب والهلال الأحمر، التي تضم اليوم أكثر من 190 جمعية وطنية.

مؤلفاته وأثره

رغم أن كتاب “ذكرى سولفرينو” هو عمله الأدبي الأشهر، إلا أن له مؤلفات ومقالات أخرى في الشأن الإنساني والديني. وقد أثر فكره في تطور مفاهيم العمل الإنساني الدولي، وأسهم في توجيه الجهود الأممية نحو ترسيخ مبادئ الحياد والاستقلال في النزاعات المسلحة.

تُعد أفكار دونانت اليوم مرجعًا أساسيًا في القانون الدولي الإنساني، وتُدرّس سيرته في كليات العلاقات الدولية والعلوم السياسية. وحتى وفاته في 30 أكتوبر 1910 عن عمر ناهز 82 عامًا، ظل يؤمن برسالة الإنسان تجاه أخيه الإنسان، دون اعتبار للانتماءات السياسية أو العرقية أو الدينية.

الشخصيات التي أثرت فيه

تأثر دونانت بشخصيات دينية وفكرية بروتستانتية مبكرة، وبقادة من مثل نابليون الثالث الذي حاول مخاطبته من أجل دعم مشاريعه. كما استفاد من دعم فريدريك موانييه، أحد الأعضاء المؤسسين للجنة الدولية، الذي كان له دور بارز في تحويل أفكاره النظرية إلى حركة إنسانية منظمة.

الخاتمة

هنري دونانت لم يكن مجرد شاهد على المأساة، بل كان محركًا للتغيير. إن إنجازه الأعظم لم يكن مجرد تأسيس مؤسسة، بل تأسيس ضمير عالمي جديد يرى في الإنسان قيمة عليا يجب صونها. وقد كانت جائزة نوبل التي نالها تتويجًا لمسيرة فريدة جمعت بين الألم والأمل، بين الحلم والعمل، وجعلت من اسمه رمزًا خالدًا للسلام والرحمة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى