سير

النجاشي: الملك العادل الذي أنصف المسلمين وآمن بالرسول

مقدمة

في تاريخ الإسلام الأوّل، برزت شخصيات غير عربية لعبت دورًا مهمًا في دعم الدعوة الإسلامية وتوفير الحماية للمستضعفين من الصحابة، ومن أبرز هذه الشخصيات النجاشي ملك الحبشة، الذي سجّل له التاريخ موقفًا عظيمًا في استقباله للمهاجرين المسلمين الأوائل، وإنصافه لهم في وقتٍ اشتدت فيه وطأة قريش على المسلمين في مكة.

لم يكن النجاشي مجرد ملك عادل وحاكم عظيم، بل كان شخصية روحانية راقية اقترب من نور النبوة وصدق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ودخل في الإسلام إيمانًا وقناعة، رغم بُعد المسافة، ورفضه أن يضطهد أحدًا بسبب عقيدته. في هذا المقال، نستعرض سيرته كاملة بكل ما يتعلق بها من نسب، وصفات، مواقف، إسلام، ووفاته، وتأثيره في المرحلة التأسيسية للإسلام.

 

نسب النجاشي واسمه

النجاشي ليس اسمًا لشخص، بل لقب يُطلق على ملوك الحبشة كما يُطلق لقب “كسرى” على ملوك الفرس و”قيصر” على ملوك الروم. لكن النجاشي الذي ورد ذكره في السيرة النبوية واسمه الحقيقي: أصحمة بن أبجر أو أصحمة النجاشي.

وقد ذكر المؤرخون أن “أصحمة” تعني “العطية” أو “الهبة” في اللغة الحبشية. وُلد في أسرة ملكية حبشية، وحكم مملكة أكسوم الواقعة في أرض الحبشة (إثيوبيا حاليًا) في القرن السابع الميلادي.

 

دينه قبل الإسلام

كان النجاشي نصرانيًا على مذهب التوحيد الأقرب إلى الإسلام. وكان مؤمنًا بالله الواحد، بعيدًا عن الغلو في العقائد المسيحية مثل التثليث. وقد ساعده هذا الصفاء العقائدي على تقبّل الرسالة الإسلامية عندما عرضها عليه الصحابة، ثم عندما قرأ عليه جعفر بن أبي طالب آيات من سورة مريم، التي تُجلّ السيدة مريم وابنها عيسى عليهما السلام.

 

صفاته ومكانته

اشتهر النجاشي بالعدل، والتواضع، والحكمة، وحسن الخلق، مما جعله محبوبًا بين قومه ومهابًا عند الملوك المجاورين. ولعل أبرز صفة لازمته في الروايات الإسلامية هي العدل، فقد قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم:

> “إن فيها ملكًا لا يُظلم عنده أحد” (رواه ابن إسحاق في السيرة).

 

وكان يحكم بمشورة أهل الدين والعقل، وكان من أهل المعرفة بكتب الأنبياء، ويمتلك حسًّا روحانيًا راقيًا أهّله لفهم المعاني العميقة في الإسلام بمجرد سماعه للقرآن.

 

الهجرة إلى الحبشة واستقبال المسلمين

مع اشتداد الأذى على المسلمين في مكة، أذن لهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى الحبشة، قائلاً لهم إن بها ملكًا لا يُظلم عنده أحد. فكانت الهجرة الأولى في السنة الخامسة من البعثة، وضمّت قرابة 12 رجلًا و4 نساء.

ثم تبعتها هجرة ثانية ضمت أكثر من 80 مسلمًا، بينهم جعفر بن أبي طالب، الذي كان له الدور الأهم في الحديث مع النجاشي وإقناعه بعدم تسليم المسلمين إلى وفد قريش.

 

موقفه في مجلس المحاكمة

أرسلت قريش وفدًا بقيادة عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص (قبل إسلامه) محمّلين بالهدايا الثمينة لإقناع النجاشي بإعادة المسلمين إلى مكة. لكن النجاشي، الذي كان يحكم بالعدل، رفض أن يُسلم من جاءه طالبًا الحماية قبل أن يستمع إليه.

وفي مجلسه المهيب، وقف جعفر بن أبي طالب وشرح للنجاشي أحوالهم قبل الإسلام، ثم كيف جاءهم نبي يدعو إلى التوحيد وترك الظلم، ثم قرأ عليه آيات من سورة مريم.

فبكى النجاشي، وقال:

> “إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة.”

ورفض تسليم المسلمين، وقال لوفد قريش: “اذهبوا فوالله لا أسلمهم إليكم أبدًا، ولا يُكادون.”

هذا الموقف كان نقطة فاصلة في دعم الدعوة الإسلامية، فقد وجد المسلمون ملاذًا آمنًا بعيدًا عن بطش قريش.

 

إسلام النجاشي

تذكر المصادر أن النجاشي أسلم سرًا، وبعث بإسلامه إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم مع رسالة وهدايا، لكنه خشي على ملكه من الانهيار لو أعلن إسلامه في ذلك الوقت، لأن قومه كانوا على دينهم النصراني.

وقد روى الطبراني في معجمه الكبير أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إليه رسالة يدعوه فيها إلى الإسلام، فأسلم وكتب إليه:

> “أشهد أنك رسول الله صادقًا مصدقًا، وأني قد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين.”

 

بعض الروايات تذكر أن الصحابي عمرو بن أمية الضمري ذهب إلى الحبشة بكتاب من النبي صلى الله عليه وسلم، وأعلن النجاشي إسلامه على يديه.

 

صلاة النبي عليه الغائب

في السنة التاسعة للهجرة، توفي النجاشي في الحبشة. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بوفاته في ذات اليوم، رغم المسافة البعيدة، وقال لهم:

> “مات اليوم رجل صالح، فقوموا فصلّوا عليه.”

وصلى عليه النبي صلاة الغائب، وهي أول صلاة غائب في الإسلام، وتقدّم المسلمين ليصلوا خلفه، وأثنى عليه في خطبته.

وقد ورد في صحيح البخاري عن أبي هريرة قال:

“نَعَى رسول الله النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وقال: استغفروا لأخيكم.”

 

مكان دفنه

دُفن النجاشي في أرض الحبشة، وتوجد في إريتريا اليوم مقبرة تُنسب إليه في مدينة “نقري” قرب العاصمة أسمرا، وإن لم يُتيقن من مكان دفنه بدقة بسبب الزمن.

 

أثر النجاشي في الدعوة الإسلامية

1. دعم مرحلة التأسيس: وفّر ملاذًا آمنًا للمسلمين الأوائل حين لم يكن لهم قوة أو دولة.

2. ضرب مثالًا للعدل الديني: حيث تعامل مع الإسلام بروح الإنصاف لا التعصب، رغم كونه على دين آخر.

3. نموذج للحاكم الصالح: بقيت صورته في التراث الإسلامي رمزًا للملك العادل، بل لُقّب بـ”ملك مؤمن من غير المسلمين”.

 

رؤية العلماء له

اتفق العلماء على فضل النجاشي، واعتبره كثير منهم صحابيًا لأنه آمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم في حياته ومات على الإسلام، حتى وإن لم يلتقِ بالنبي مباشرة.

قال الإمام النووي:

> “النجاشي ملك الحبشة صحابي؛ لأنه آمن بالنبي ولم يره.”

 

وذهب بعض العلماء إلى أنه من أهل الجنة، مستدلين بقول النبي في حديث وفاته.

 

خاتمة

تظل سيرة النجاشي صفحة مضيئة في تاريخ التفاعل الإنساني بين الشعوب، ودليلًا على أن القلوب الصافية تنفتح على الحق أينما جاء. آمن النجاشي برسالة الإسلام قبل أن يرى النبي، وأنصف المظلومين دون أن يخشى في الله لومة لائم، ودخل في الإسلام بصدق فاستحق أن يُصلى عليه النبي نفسه. إنّ قصة النجاشي تذكّرنا أن الإيمان قد يوجد في القلوب البعيدة جغرافيًا والقريبة من الله روحيًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى