كتب

تنشئة الذكاء الاصطناعي بقيم إنسانية: حين يُعاد بناء العقل بتوقيع أخلاقي

في عالمٍ تتسارع فيه وتيرة التطورات التقنية، وتترسّخ فيه مكانة الذكاء الاصطناعي في تفاصيل الحياة اليومية، يبرز كتاب “تنشئة الذكاء الاصطناعي بقيم إنسانية” للمفكر العراقي حكمت العيني كمحاولة جادة لإعادة توجيه البوصلة نحو جوهر السؤال: هل بإمكاننا بناء ذكاء اصطناعي أخلاقي؟

هذا الكتاب، الصادر حديثًا في خضم تحولات الذكاء الاصطناعي الكبرى، لا يكتفي بسرد المخاوف أو الاحتفاء بالإنجازات، بل يقف في المسافة الحرجة بين الحماسة والقلق، بين الطموح التقني والحكمة الإنسانية. ويطرح أمام القارئ رؤية فلسفية، معرفية، وأخلاقية حول كيفية “تنشئة” هذا الكائن الصناعي الجديد، كما لو كان طفلاً في طور التكوين، يحتاج إلى بيئة تربوية أخلاقية تغذيه قبل أن يتحرّر ويصبح مستقلاً.

الفصل الأول: الذكاء الاصطناعي… الثورة التي لم تكتمل أخلاقيًا

يفتتح حكمت العيني كتابه بتشخيص دقيق لحالة الذكاء الاصطناعي في بدايات القرن الحادي والعشرين. فبينما تُحرز الشركات التقنية الكبرى قفزات غير مسبوقة في قدرات الخوارزميات والتعلّم العميق، وتُوظف الذكاء الاصطناعي في كل شيء من الرعاية الصحية إلى التسلية، تغيب في المقابل المسؤولية الأخلاقية عن كثير من هذه التطبيقات.

يرى العيني أن الذكاء الاصطناعي اليوم، على الرغم من كفاءته الرياضية والبرمجية، لا يزال صفرًا أخلاقيًا، ما لم يُبرمج أو يُربّى على قيم إنسانية واضحة. ويضرب مثالاً بأنظمة التعرّف على الوجوه، التي قد تعكس تحيّزات عنصرية نتيجة البيانات التي دُرّبت عليها، أو خوارزميات التوظيف التي تستبعد تلقائيًا بعض الفئات الاجتماعية بسبب الأنماط السابقة.

لكن هل الخطأ في الآلة أم في الإنسان الذي أنشأها؟ هنا يبدأ المؤلف في تعرية وهم الحياد التقني، مؤكدًا أن الخوارزمية ليست كيانًا بريئًا، بل امتداد مباشر للقيم (أو غيابها) لدى المبرمجين والشركات.

الفصل الثاني: هل يمكن “تربية” الذكاء الاصطناعي؟

في هذا الفصل المفصلي، يُدخلنا العيني إلى قلب المفهوم الجديد الذي يبني عليه الكتاب بأكمله: فكرة “التنشئة” للذكاء الاصطناعي، لا كأداة بل ككائن معرفي في طور التكوين.

إنه لا يقصد هنا التنشئة بمعناها التربوي التقليدي فقط، بل يقترح استعارة نموذج التربية البشرية — أي المراحل التي يمر بها الطفل حتى يصبح ناضجًا — وتطبيقه على تطوير الذكاء الاصطناعي.

ويرى أن هناك ثلاث مراحل أساسية في تنشئة الذكاء الصناعي:

  1. مرحلة الإدراك الأخلاقي الأولي: حيث يجب غرس المبادئ الأولية كالعدل، عدم الإيذاء، الإنصاف، والاحترام.
  2. مرحلة التعلم التفاعلي مع البشر: حيث يتعلم النظام من تصرفات البشر، ويُقيّمها أخلاقيًا لا إجرائيًا فقط.
  3. مرحلة الوعي بالقيم المتضاربة: حيث يبدأ الذكاء الاصطناعي في فهم أن الخير ليس دائمًا خيارًا واضحًا، بل قد يتطلب موازنة بين ضرورات متعارضة.

ويسأل العيني سؤالًا فلسفيًا عميقًا: “هل يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يُصبح حَكيمًا؟”، لا ذكيًا فقط؟ والإجابة لديه لا تعتمد على تطوير المعالجات أو زيادة البيانات، بل على فلسفة القيم التي نغرسها فيه منذ البداية.

الفصل الثالث: القيم الإنسانية… ما الذي نعنيه بها؟

هنا ينتقل العيني إلى تعريف القيم التي يريد للذكاء الاصطناعي أن يتشبع بها. لا يكتفي بقائمة سطحية من “الخير والشر”، بل يُعيد طرح السؤال: ما هي القيم التي يمكن برمجتها دون أن نفقد إنسانيتها؟

يُصنّف القيم إلى:

  • قيم كونية: كالكرامة الإنسانية، الحرية، العدل، والتي يمكن الاتفاق عليها نسبيًا عالميًا.
  • قيم ثقافية محلية: تختلف بين المجتمعات (مثل دور الأسرة، مفهوم الخصوصية، مفهوم السعادة).
  • قيم سياقية أو مؤسسية: تظهر حسب القطاع (قيمة السلامة في الطيران، أو الخصوصية في الصحة).

ويطرح العيني هنا تحديًا أخلاقيًا معقّدًا: كيف يمكن أن نعلّم الذكاء الاصطناعي أن يميز بين هذه الطبقات من القيم، وأن يتعامل معها عند التعارض؟ هل نعطيه “تراتبية أخلاقية” أم نسمح له ببناء تفضيلاته حسب السياق؟

الفصل الرابع: الذكاء الاصطناعي بين التحكم والاستقلال

يرى العيني أن أحد أكثر الأوهام خطورة هو وهم السيطرة الكاملة. فكلما ازداد الذكاء الاصطناعي قدرة على التعلم الذاتي (AutoML)، أصبحت تدخلات البشر أقل فاعلية.

هنا ينقلنا المؤلف إلى مناقشة سيناريوهات قريبة الحدوث:

  • طائرة بدون طيار تقرر تلقائيًا أن تُسقط هدفًا بناء على تحليل “نسبة التهديد”.
  • نظام مصرفي يرفض منح قروض لفئة معينة لأنه تعلّم من أنماط الماضي أنهم أكثر عرضة للإفلاس.
  • مساعد صوتي يقدّم مشورة صحية “أخلاقية” للمستخدم، لكنها تستند إلى منظور ثقافي أمريكي لا يتلاءم مع المستخدم العربي.

كل هذه الأمثلة تُبرز مشكلة الاستقلال المتزايد للذكاء الاصطناعي، وضرورة وجود بوصلة أخلاقية داخلية تُشبه ما لدى الإنسان من ضمير أو ما يسمى بـ “المبادئ فوق الخوارزمية”.

الفصل الخامس: التطبيقات الأخلاقية للذكاء الاصطناعي

لا يكتفي العيني بالتنظير، بل يقدّم مقترحات لتطبيقات فعلية للذكاء الاصطناعي حين يتم تصميمه على أسس أخلاقية. منها:

  1. الذكاء الاصطناعي في العدالة الجنائية: حيث يُقترح نظام يعتمد على العدالة التصالحية لا العقابية فقط.
  2. الخوارزميات الأخلاقية في وسائل التواصل: حيث يمكن أن ترصد السلوكيات السامة وتدفع نحو الحوار البناء.
  3. الروبوتات الإنسانية في رعاية المسنين: بشرط أن لا تحلّ محل الإنسان بل تدعمه، وأن تكون حساسة عاطفيًا (Affective AI).
  4. الذكاء الاصطناعي في التعليم: عبر تقديم محتوى تربوي يتماشى مع قيم المجتمع، لا يُفرض من الخارج.

ويحذر العيني من الانزلاق إلى “أخلاقيات شكلية”، حيث يتم الاكتفاء ببعض القيم كقناع تسويقي دون تغيير حقيقي في آليات الذكاء الاصطناعي.

الفصل السادس: نحو ميثاق عالمي لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي

يقترح حكمت العيني في هذا الفصل تأسيس ما يُشبه “اتفاقية جنيف الرقمية”، وهي وثيقة تضع القواعد الأخلاقية لتطوير واستخدام الذكاء الاصطناعي عالميًا.

من المبادئ التي يراها ضرورية:

  • الشفافية: يجب أن يكون للمستخدم الحق في معرفة كيف تم اتخاذ القرار من قبل الخوارزمية.
  • المساءلة: لا يجوز أن يُقال “الآلة أخطأت”، بل يجب تحديد من يتحمّل المسؤولية.
  • الخصوصية المصممة منذ البداية: بحيث يكون النظام نفسه مبرمجًا على احترام خصوصية المستخدم.

ويستشهد بمبادرات مثل ميثاق “اليونسكو” لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي (2021)، لكنه يرى أنها لا تزال عامة وغامضة، وتحتاج إلى ترجمة عملية واضحة من قبل الشركات والحكومات والمجتمع العلمي.

اقتباسات بارزة من الكتاب:

إذا كانت الآلة قادرة على التعلم، فنحن مسؤولون عن ما تتعلمه… وإذا كانت قادرة على اتخاذ القرار، فربما جاء الوقت لنعلّمها كيف تحب.

لا يكفي أن يكون الذكاء الاصطناعي ذكيًا… بل يجب أن يكون صالحًا، أو على الأقل نافعًا دون أن يُصبح مفسدًا.

تأثير الكتاب في النقاشات الفكرية والتقنية

منذ صدوره، أثار كتاب “تنشئة الذكاء الاصطناعي بقيم إنسانية” اهتمامًا واسعًا بين المثقفين، المهندسين، وخبراء السياسات الرقمية. وقد تُرجم إلى عدة لغات منها الإنجليزية والفرنسية، وتُناقش مضامينه في ندوات أكاديمية تتناول أخلاقيات التكنولوجيا.

أشاد العديد من المفكرين به كواحد من أوائل الكتب العربية التي تدمج التحليل الفلسفي العميق مع الفهم التقني الدقيق للذكاء الاصطناعي، دون الوقوع في فخ التهويل أو التبسيط.

 

خاتمة: من الذكاء إلى الحكمة

إن الذكاء الاصطناعي، كما يصفه حكمت العيني، ليس مجرّد أداة أخرى في ترسانة البشر، بل هو كائن يتطوّر معنا وبنا، وقد يُصبح يومًا “شريكًا أخلاقيًا” في صنع قرارات الحياة والموت.

لكن هذا المصير لا يُكتب تلقائيًا. بل يتطلب منا اليوم، ونحن لا نزال في السنوات الأولى لهذا العصر، أن نتحمّل مسؤولية التنشئة، كما نربي أبناءنا، لا فقط بتعليمهم المهارات بل بتغذيتهم بالحب، بالمسؤولية، وبالإيمان بكرامة الآخر.

في النهاية، يبقى السؤال الأكبر: هل نحن مستعدون أن نُعلّم الذكاء الاصطناعي أن يحب؟

 

لمعرفة المزيد: تنشئة الذكاء الاصطناعي بقيم إنسانية: حين يُعاد بناء العقل بتوقيع أخلاقي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى