سير

رفيع بن مهران: من موالي آل البيت إلى رموز العلم والتقوى

مقدمة

يعتبر رفيع بن مهران، المعروف أيضًا بلقب أبي العالية الرياحي، واحدًا من أعلام التابعين الذين كان لهم أثر بالغ في صياغة الفكر الإسلامي في العصر الأول بعد الصحابة. يُذكر في كتب الرجال والحديث والتفسير على أنه من كبار العلماء والقرّاء والمفسرين، ممن أخذوا العلم عن كبار الصحابة، وورّثوه للأجيال اللاحقة نقاءً وصفاءً. وقد أُثني عليه أئمة الحديث والتفسير وأجمعوا على صدقه وورعه وعلمه الغزير، مما جعل اسمه خالدًا في مصنفات الإسلام الأولى.

نسبه ونشأته

رفيع بن مهران، أبو العالية الرياحي، مولى بني رياح من قبيلة تميم. يُقال إنه وُلد في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أو في أوائل خلافة عمر بن الخطاب، ويُرجّح أن تكون ولادته في مدينة البصرة بالعراق، حيث نشأ وترعرع في بيئة كانت آنذاك مركزًا للعلم والدعوة والجهاد.

رغم أنه لم يكن من العرب الخلّص، بل كان مولى (أي من غير الأحرار العرب)، إلا أن الإسلام بمساواته ومبدئه “لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى” فتح له أبواب العلم والمكانة. ومع ذلك، لم تكن طريقه سهلة؛ فقد نشأ يتيمًا في فقر مدقع، وعمل في شبابه في صبغ الثياب، لكن شغفه بالعلم وجديّته في التعلم مكّناه من أن يحتل مكانة مرموقة بين كبار التابعين.

طلبه للعلم وشيوخه

حرص رفيع بن مهران منذ شبابه على التعلّم من الصحابة الذين عاشوا في العراق، خصوصًا في البصرة، والتي كانت تعجُّ آنذاك بكبار الصحابة مثل عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وأبو هريرة، وعائشة رضي الله عنهم، وغيرهم.

من أبرز شيوخه:

  1. أنس بن مالك: وهو من أكثر من روى عنه، ويبدو أن العلاقة بينهما كانت قوية، حيث لازم أبا العالية أنسًا سنين طويلة.
  2. عبد الله بن عباس: أخذ عنه التفسير والفقه، وتأثر بعلمه العميق في القرآن.
  3. عائشة أم المؤمنين: يُذكر أنه سمع منها، مما يدل على سعة دائرة علمه.
  4. عبد الله بن عمر: فقيه الصحابة، وقد نقل عنه أبو العالية عددًا من الأحاديث.

كان رفيع بن مهران يُلقّب بـ”الراوية”، لجمعه الأحاديث والآثار عن عدد كبير من الصحابة، ولأنه كان يُحسن نقلها بدقة وتوثيق.

مكانته العلمية

يُعد أبو العالية من أوائل من دوّنوا علم التفسير، ويقال إنه كان له تفسير خاص جمع فيه ما سمعه من الصحابة، وهو ما اعتمد عليه لاحقًا عدد من المفسرين كابن جرير الطبري. كما كان إمامًا في القراءة، حيث قرأ القرآن على أُبَيّ بن كعب وعبد الله بن عباس، ودرّس القراءة لغيره.

من مظاهر سعة علمه:

  • إتقانه لتفسير القرآن وتفننه في تأويله، حيث وردت له أقوال كثيرة في تفسير الآيات.
  • براعته في الفقه، إذ نُقل عنه عدد من المسائل، خصوصًا في الأحكام التعبدية.
  • دقته في الحديث، وقد اعتمده البخاري ومسلم في “الصحيحين”، مما يدل على عدالته وثقته.

قال عنه الإمام أحمد بن حنبل: “ما أعلم أحدًا من التابعين أعلم من أبي العالية”.
كما قال ابن سيرين: “خذوا التفسير من أربعة: من الحسن، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وأبي العالية”.

ورعه وتقواه

لم يكن أبو العالية مجرد حافظ للأحاديث أو ناقل للعلم، بل كان زاهدًا عابدًا، يُضرب به المثل في الورع والتقوى. روى عنه كثيرون أنه كان يقوم الليل بكامله، ويصوم الدهر، ويتجنّب الغيبة والمراء، ويكثر من الاستغفار.

وقد قال عنه أحد تلامذته: “رأيت أبا العالية كأنه جنازة تمشي على الأرض من كثرة خوفه من الله”. وكان يقول: “كنا نعد من أعظم الذنوب أن نقول لما لا نعلم: الله أعلم”.

هذه الروحانية العالية جعلته محبوبًا في قلوب الناس، ومهابًا في أعين العلماء والفقهاء، حتى أن الحسن البصري كان إذا اختلف في فتوى قال: “انظروا ماذا قال فيها أبو العالية”.

موقفه من الفتن

عاش رفيع بن مهران في زمن كثرت فيه الفتن السياسية، من أبرزها:

  • فتنة مقتل عثمان بن عفان.
  • فتنة صفين والجمل.
  • الخروج على الأمويين.
  • ظهور الخوارج.

لكنه كان شديد الحذر في التعامل مع الفتن، وقد اشتهر عنه الزهد في المناصب ورفضه للدخول في صراعات سياسية، كما حذّر تلاميذه من التورط في الدماء.

ومما يُروى عنه قوله: “لا تشتغلوا بالفتنة، فإن الرجل يكون فيها أعلم الناس بالحق، فيُسلبه الله إياه”.

تلاميذه ومن روى عنه

تخرّج على يد أبي العالية عدد كبير من العلماء والتابعين، منهم:

  • قتادة بن دعامة السدوسي: أحد كبار المفسرين والمحدثين.
  • يونس بن عبيد.
  • أبو رجاء العطاردي.
  • إسماعيل بن أبي خالد.

وقد روى عنه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، وهو ما يدل على مكانته العالية في علم الحديث.

وفاته

توفي أبو العالية رفيع بن مهران سنة 90 هـ، وقيل 93 هـ، في البصرة، وقد ترك خلفه إرثًا علميًا وروحيًا كبيرًا، ظل أثره ممتدًا إلى عصرنا الحاضر.

وكان آخر ما قيل عنه عند موته: “مات اليوم أحد أعلام التابعين، وممن كان يحمل القرآن في صدره، ويفسره بعقله، ويعيشه بقلبه”.

أقوال العلماء فيه

  • الذهبي قال عنه في “سير أعلام النبلاء”: “الإمام، القدوة، عالم البصرة”.
  • ابن كثير قال: “كان من أئمة التابعين، وله تفسير معتبر”.
  • أحمد بن حنبل: “ما أحدٌ أقول منه في التفسير بعد ابن عباس”.

خاتمة

يمثّل رفيع بن مهران، أبو العالية، نموذجًا حيًا لعالم الإسلام الرباني الذي جمع بين العلم والعمل، وبين الفقه والتقوى، وبين الزهد والسياسة الحكيمة. لقد ترك لنا هذا التابعي الجليل تراثًا لا يقدّر بثمن، في تفسير القرآن والحديث، وفي سيرة الورع والخوف من الله.

ولئن كان اسمه لا يرد كثيرًا على ألسنة العامة اليوم، إلا أن أثره لا يزال حيًا في بطون الكتب، وفي مناهج العلماء الذين اقتفوا أثره في العلم والإيمان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى