سير

رينه سولي برودوم: عملاق الأدب الفرنسي وأول من نال جائزة نوبل للآداب

الميلاد والنشأة
وُلد رينه سولي برودوم (René-François-Armand Sully-Prudhomme) في السادس عشر من مارس عام 1839 في العاصمة الفرنسية باريس، ونشأ في أسرة برجوازية متواضعة، حيث فقد والده في سن مبكرة، ما ألقى عليه أعباء نفسية ومادية منذ الصغر. وقد تلقى تعليمه الأولي في مدارس باريس الكلاسيكية، وظهرت بوادر ميوله الأدبية والفكرية منذ سن مبكرة، وإن كان اهتمامه الأول في بداية حياته الأكاديمية قد انصب على العلوم والهندسة.

 

التعليم والمسار الأكاديمي
بدأ برودوم دراسته في مدرسة ليسيه بونابرت (Lycée Bonaparte)، وهي من أعرق المدارس الثانوية الفرنسية في تلك الحقبة. ثم التحق بالمدرسة المركزية في باريس (École Centrale des Arts et Manufactures)، حيث درس الهندسة. غير أن تدهور حالته الصحية – فقد عانى من التهاب في العين – جعله يتخلى عن مسيرته الهندسية مبكرًا، ليبدأ في تحويل اهتمامه إلى الأدب والفلسفة، وهو التحول الذي سيشكل لاحقًا ملامح مسيرته الإبداعية.

 

بداية المسيرة الأدبية
في عام 1865، نشر أول ديوان شعري له بعنوان “اختبارات” (Stances et Poèmes)، والذي لاقى استحسانًا كبيرًا في الأوساط الأدبية الفرنسية، حيث بدا واضحًا تأثره بالتيارات الفلسفية والعلمية، وبالروح الكلاسيكية التي كانت تهيمن على الأدب الفرنسي آنذاك. منذ بداياته، امتاز برودوم بأسلوب لغوي راقٍ، دقيق في اختيار كلماته، ويغلب عليه الطابع التأملي والعقلاني، ما جعله مختلفًا عن كثير من معاصريه من شعراء المدرسة الرومانسية.

 

الانتماءات الفكرية والمؤسسات الثقافية
في عام 1881، تم انتخاب برودوم عضوًا في الأكاديمية الفرنسية (Académie Française)، أحد أرفع الصروح الأدبية في فرنسا، حيث شغل الكرسي رقم 24. وقد أتاحت له هذه المكانة المرموقة أن يكون من المؤثرين في السياسة الثقافية الفرنسية، كما جعلته من رموز التوازن بين الفكر العقلاني والنزعة الجمالية في الشعر الفرنسي.
كما ساهم في تأسيس الجمعية الأخلاقية الفرنسية (Société de Morale), حيث عبّر عن اهتمامه العميق بالفلسفة والأخلاق، إذ كان يرى في الشعر وسيلة لفهم الحياة والوجود، لا مجرد تعبير جمالي.

 

أبرز أعماله ومؤلفاته
بلغ عدد مؤلفاته الشعرية والفكرية قرابة 15 مؤلفًا، أبرزها:

  • اختبارات (Stances et Poèmes) – 1865
  • عدالة الأبدية (La Justice) – 1878
  • السعادة (Le Bonheur) – 1888
  • التعبير عن الفكرة (L’Expression des idées) – 1900

كما كتب عددًا من المقالات والبحوث الفلسفية، حاول فيها المزج بين الشعر والمنطق، من أبرزها: تأملات حول العلم والفن والأخلاق.

 

الشخصيات المؤثرة في حياته
تأثر برودوم بعدد من الفلاسفة والشعراء، أبرزهم أوغست كونت، مؤسس الفلسفة الوضعية، والذي استلهم منه التوازن بين الحس والعقل. كما تأثر بالأديب الفرنسي ألفونس دو لامارتين، رغم اختلاف المنهج بينهما، حيث حافظ برودوم على الطابع التأملي العقلاني مقابل العاطفية الرومانسية. وقد كانت علاقته بالأكاديمية الفرنسية، واحتكاكه بمفكرين كبار أمثال إرنست رينان، حافزًا لتطوير رؤيته المعرفية.

 

جائزة نوبل للآداب (1901)
في عام 1901، كان رينه سولي برودوم أول من نال جائزة نوبل في الأدب، وذلك في أول دورة للجائزة على الإطلاق. وقد علّلت الأكاديمية السويدية اختيارها بقولها: “تقديرًا لنتاجه الشعري الذي يدل على سمو المثالية، ونقاء الفن، وامتزاج الصفات العقلية بالقلبانية”.
وقد جاء هذا التكريم في سياق عالمي شهد نهضة أدبية وعلمية، وكانت أوروبا تبحث عن رموز ثقافية تجمع بين العقلانية والروح الإنسانية، فكان برودوم مثالًا حيًا لهذا التوازن.
نال الجائزة بقيمة مالية قدرها 150 ألف فرنك فرنسي آنذاك، تبرع بجزء كبير منها لإنشاء صندوق لدعم الأدباء الشباب الفرنسيين، وهو ما يعكس روحه الإنسانية والتضامنية.

 

جوائز أخرى وتقديرات
بالإضافة إلى جائزة نوبل، حصل برودوم على عدد من الأوسمة والتكريمات في فرنسا، منها:

  • وسام جوقة الشرف من رتبة فارس (Chevalier de la Légion d’honneur)
  • عضوية في الأكاديمية الملكية البلجيكية للغة والأدب
  • تكريم خاص من جمعية الشعر الفرنسي تقديرًا لإسهاماته في تطور الشعر الفلسفي

 

المرض والوفاة
عانى برودوم في سنواته الأخيرة من أمراض مزمنة، أبرزها مشاكل في الرؤية والجهاز العصبي، ما اضطره إلى الانعزال عن الحياة العامة. توفي في 6 سبتمبر عام 1907 عن عمر ناهز 68 عامًا، ودُفن في مقبرة بير لاشيز الشهيرة في باريس، حيث يرقد العديد من رموز الثقافة الفرنسية.

 

أثره وإرثه الثقافي
ترك رينه سولي برودوم أثرًا بالغًا في الأدب الفرنسي والعالمي، خاصة في مجال الشعر التأملي الفلسفي، حيث كان من أوائل من حاولوا إدماج الفكر العلمي والفلسفي في التعبير الشعري.
ويُعد من الروّاد الذين مهدوا الطريق لأدباء القرن العشرين، أمثال بول فاليري وسان جون بيرس. كما ألهمت كتاباته عددًا من المفكرين في أوروبا، وساهمت في تعزيز النزعة الإنسانية والأخلاقية في الأدب.

رغم أن مكانته خفتت نسبيًا في أوساط الأدب الحديث، إلا أن مكانته التاريخية كأول من نال جائزة نوبل للآداب تبقى محفوظة، فضلًا عن تفرّده بأسلوب عقلاني شعري نادر. كما تُدرّس نصوصه اليوم في عدد من الجامعات الفرنسية والأوروبية في سياق تاريخ تطور الشعر الفلسفي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى