سير

سالم بن عبد الله بن عمر: سليل بيت الخلافة ومصباح من مصابيح الهداية

المقدمة: سيرة تُروى بماء الذهب

في عالم التابعين، تبرز أسماء عظيمة شكلت معالم الفكر الإسلامي في عصوره الأولى. ومن بين هذه الأسماء يسطع نجم سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، حفيد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وواحد من أبرز فقهاء المدينة المنورة في القرن الأول الهجري. وقد حاز سالم شرف النسب، والعلم، والعبادة، والزهد، فجمع بين الدين والدنيا بما قلّ نظيره.

النسب والولادة

سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي، أمه هي أم ولد، وكان من الموالي، وقد ولد في المدينة المنورة سنة 66 هـ تقريبًا، بعد استشهاد جده الفاروق بسنوات. نشأ سالم في بيت علم وزهد، حيث كان والده عبد الله بن عمر بن الخطاب أحد كبار الصحابة وأكثرهم تمسكًا بالسنة النبوية.

نشأته وتكوينه العلمي

نشأ سالم في بيت امتلأ بالعلم والتقوى، فكان والده مرجعًا للفتوى ومصدرًا للعلم، وقد تعلم سالم على يديه منذ صغره. لم يكن سالم طالب علمٍ فقط، بل كان نهِمًا في طلبه، كثير الترحال بين علماء المدينة، حتى أصبح من أشهر فقهائها.

ومن أبرز معلميه:

  • عبد الله بن عمر (أبوه)
  • عبد الله بن عباس
  • عبد الله بن الزبير
  • عبد الرحمن بن عوف
  • أبو هريرة

أما من بين تلاميذه:

  • الزهري
  • نافع مولى ابن عمر
  • مالك بن أنس (عن طريق السند)
  • ابن شهاب الزهري
  • أيوب السختياني

وقد عُرف عن سالم حفظه القوي للحديث والفقه، وقد جمع عدداً كبيراً من الأحاديث، تُقدَّر بما يقارب 250 حديثًا مرويًا عنه في كتب السنة.

مكانته بين العلماء

كان سالم من الفقهاء السبعة في المدينة، وهم:

  1. سعيد بن المسيب
  2. عروة بن الزبير
  3. القاسم بن محمد بن أبي بكر
  4. خارجة بن زيد
  5. عبيد الله بن عبد الله بن عتبة
  6. أبو بكر بن عبد الرحمن
  7. سالم بن عبد الله

وتُعدّ هذه الكوكبة أساس الفقه المدني الذي أرسى قواعده الإمام مالك لاحقًا. وقد قال عنه الإمام مالك بن أنس:

“كان سالم من أفضل الناس، وكان يُقدَّم في الفتوى”.

كما قال ابن سيرين:

“ما بقي أحد أعلم بحديث ابن عمر من سالم”.

ورعه وزهده

ما يُميّز سيرة سالم ليس فقط علمه، بل زهده وتقواه. كان زاهدًا في الدنيا، عابدًا لله، كثير البكاء والخشوع، لا يقبل العطايا من الأمراء، ولا يتزلف لأحد. ومن أشهر ما يُروى عنه أنه كان في الحج، فبعث إليه عبد الملك بن مروان بألف دينار، فردّها سالم، وقال:

“ما كنت لأبيع ديننا بدنيانا”.

وقد طلبه الخليفة هشام بن عبد الملك يومًا ليسأله في مسألة، فلم يجبه، فلما خرج الخليفة قال سالم:

“من أراد الدنيا فليلزم أبوابها، ومن أراد الآخرة فليلزم أبواب العلماء”.

أخلاقه وتواضعه

كان سالم بن عبد الله بن عمر مثالاً للتواضع والخلق الرفيع، وكان لا يتكلم إلا بالحكمة، ولا يغضب إلا لله، ولا يرد سائلاً، وكان لا يحب الجدل، ويعرض عن صخب الحياة. وقد اشتهر عنه أنه كان كثير العبادة، محافظًا على قيام الليل، وصيام التطوع، وكان يصلي من الليل ما شاء الله، ثم يختمه بالاستغفار والبكاء.

موقفه من السلطة والسياسة

كجده عمر وأبيه عبد الله، كان سالم يرى أن الدين أعظم من المناصب والسلطة. لم يشارك في الفتن السياسية، ولم يكن له ولاء لحزب أو تيار، بل كان مع الحق حيث دار. وقد عرض عليه بعض الخلفاء أن يلي القضاء، فرفضه قائلاً:

“إنّي أخشى أن أقول كلمةً أُخالف فيها كتاب الله”.

روايته للحديث

كان سالم من أوثق رواة الحديث، وقد وثقه البخاري ومسلم، وروى له:

  • البخاري
  • مسلم
  • النسائي
  • أبو داود
  • الترمذي
  • ابن ماجة

وتتعدد رواياته، منها عن أبيه عبد الله بن عمر، كما نقل عنه نافع مولى ابن عمر، ويشكل الثلاثة سلسلة شهيرة في الحديث تعرف بـ”سلسلة الذهب”:
مالك عن نافع عن ابن عمر، ويأتي سالم بين نافع وابن عمر في بعض الروايات.

وفاته

توفي سالم بن عبد الله بن عمر في المدينة المنورة سنة 106 هـ في عهد الخليفة هشام بن عبد الملك، عن عمر يناهز الأربعين عامًا. وقد دفن في البقيع، جنبًا إلى جنب مع آل البيت والصحابة.

خاتمة: إرث خالد

يبقى سالم بن عبد الله بن عمر مثالًا للتقي الزاهد العالم، الذي جمع بين سمو النسب ونُبل الخلق وغزارة العلم. وقد ترك إرثًا علميًا وروحيًا لا يُقدَّر بثمن، وهو حلقة من حلقات النور التي نقلت الشريعة من الصحابة إلى الأجيال التالية.

إن دراسة سيرته تُعد مدخلًا لفهم الروح العلمية والزهدية التي سادت عصر التابعين، وهي دعوة للعودة إلى عالم كانت فيه القدوة من لحم ودم، لا من ورق وتمنٍّ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى