سيرة حياة أجاثا كريستي
ولدت أغاثا ماري كلاريسا ميلر في بلدة توركاي بمقاطعة ديفون جنوب غرب إنجلترا، يوم 15 سبتمبر/أيلول 1890، لأب أميركي يدعى فريدريك ألفا ميلر، وأم إنجليزية اسمها كلاريسا مارغريت بويمر.
عاشت في البداية طفولة هادئة وسط الفِلل القديمة الشاسعة في منطقة توركاي، وكان مسكن أبويها مليئا بحدائق الزهور والنخيل، ونعمت فيه بسعادة الطفولة مع أخيها مونتي وأختها مادج اللذين يكبرانها.
بدأت أغاثا كتابة الشعر والقصص القصيرة منذ الصغر، ومارست المسرح وهي ما تزال طفلة، وجربت أيضا الغناء، وحاولت أن تنضم إلى فرقة أوبرا في نيويورك.
وفي عام 1901 عكَّر الحزن طفولتها، وتوفي والدها بسكتة قلبية، وهي في الحادية عشرة من عمرها، وعاشت بعده هي وأسرتها ظروفاً صعبة.
بعد سنوات قليلة انتقلت إلى العاصمة الفرنسية باريس بغرض دراسة الموسيقى والغناء وتعلُّم العزف على البيانو، لكن لم يطل بها المقام هناك؛ لأن معلميها حكموا على أدائها بالفشل، ونصحوها باختيار سبيل آخر.
زارت مصر أول مرة وعمرها سبع عشرة سنة، وأمضت فيها ثلاثة أشهر بناء على نصيحة من الأطباء لإمضاء فترة نقاهة من المرض، كما زارت فيما بعد العراق وسوريا، فأحبت هذه البلاد، واستلهمتها في بعض أعمالها الروائية فيما بعد.
تزوجت عام 1914 العقيد أرشيبالد كريستي، وهو طيار سلاح كان حديث التعيين في الطيران الملكي البريطاني، وبينما كان هو في الجبهة في فرنسا خلال الحرب العالمية الأولى، تطوعت هي في أحد المستشفيات في بلدة توركاي ممرضة لتداوي الجرحى.
كما اشتغلت أيضا صيدلانية، وتعلمت الكثير عن السموم والمواد الكيميائية وصناعة الأدوية، وهو ما ساعدها لاحقا في نسج أحداث كثير من رواياتها، و”استخدام السموم” في جرائم القتل التي صورتها.
وبعد نهاية الحرب العالمية، تدهورت العلاقة بينها وبين زوجها، وخاصة بعد موت والدتها عام 1926، حيث اعتبر أنها بالغت في الحزن عليها، وأن ذلك أثر على حياتهما وحياة أسرتهما.
ومما دمر العلاقة أيضا بين أغاثا وأرشيبالد أنه أُغرم بامرأة أخرى تدعى نانسي نيل، وبدأ يخونها معها، وهو ما طعن في كرامتها، فردت عليه بحادث غريب، كثرت بشأنه التأويلات، وبقي غامضا إلى اليوم.
فقد اختفت أغاثا كريستي أحد عشر يوما كاملة، من 3 إلى 14 ديسمبر/كانون الأول 1926، وشارك في البحث عنها آلاف من رجال الشرطة، إضافة إلى نحو خمسة عشر ألف متطوع من الشعب البريطاني، وتصدرت الصفحات الأولى للجرائد، وخصصت صحيفة “ديلي نيوز” مكافأة بمقدار 100 جنيه إسترليني لكل من يدلي بمعلومة مفيدة عن مكانها أو مصيرها.
وتم العثور على سيارتها قرب إحدى البحيرات، فانطلقت التحليلات والفرضيات والسيناريوهات في تفسير ذلك الاختفاء الغامض، بين قائل إنها انتحرت، ومرجح لقتلها، ومتهم في ذلك زوجها، ومفسر لما جرى بأنه حادث مروري أو عملية خطف، حتى إن البعض ذهب إلى القول: إنه حادث مدروس من أجل الشهرة وإثارة الانتباه.
وبسبب الحملة الإعلامية الكبيرة آنذاك، وتسابق كبريات الصحف لكشف ملابسات الحادثة، تعرف أحد العمال في فندق ببلدة يوركشاير (شمال البلاد) -البعيدة عن توركواي بنحو 500 كلم- على امرأة تتحقق فيها كل أمارات الروائية المختفية التي قلبت بريطانيا رأسا على عقب.
اتصل برجال الشرطة وأحضروا زوجها إلى الفندق، وفعلا تعرف عليها وتبين أنها أغاثا كريستي، لكن تبين أيضا أنها لم تتعرف عليه ولا على نفسها، ولا تعرف من تكون، ولا من أهلها، ولا من أين جاءت، وأكد الأطباء فيما بعد أنها أصيبت بفقد جزئي للذاكرة.
ومما جعل كثيرا من المتابعين للقضية آنذاك يعتبر أن اختفاء أغاثا كريستي جاء ردة فعل على طعنة خيانة زوجها وغصة وفاة أمها، أنها سجلت دخولها إلى الفندق باسم نانسي نيل، وهي عشيقة زوجها.
بعد تعافيها من الصدمة، وعودتها إلى حياتها الطبيعية، لم تدم العشرة طويلا بين أغاثا وأرشيبالد، حيث تم طلاقهما بعد أشهر فقط.
بعد طلاقها سافرت هي وابنتها الوحيدة روزاليند إلى جزر الكناري، وأمضت هناك مدة غير قصيرة، وهو السفر الذي أثر بدوره في خيالها، واستلهمت منه بعض أحداث رواياتها التي تعد بالعشرات.
الرحلات السياحية الكثيرة حملت أيضا أغاثا كريستي إلى العراق وسوريا، وهناك تعرفت على عالم الآثار البريطاني ماكس مالوان، وتزوجت منه عام 1930، فأصبحت تدعى أغاثا مالوان، ورافقته في عمله إلى كثير من مناطق الشرق الأوسط، ومن ثم نجد أثرا واستثمارا لعلم الآثار والحفريات في كتاباتها.
فقد انضمت رسميا إلى بعثة التنقيب البريطانية في موقع النمرود بنينوى شمالي العراق، ثم إلى بعثة الأربجية بالموصل عام 1932، والتي كانت برئاسة زوجها، وكانت مهمتها في البعثة ترميم القطع الفخارية وجرد القطع الأثرية وتصويرها وتنظيفها بأدوات خاصة.
كما رافقت زوجها أيضا خلال تنقيباته في حوض نهر الخابور في سوريا، وأسهمت في عمليات تصوير وتوثيق الكشوف الأثرية هناك.
الدراسة والتكوين العلمي
لم تدخل أغاثا كريستي المدرسة، بل تعلمت فقط في البيت، حيث علمتها أمها القراءة والكتابة، وشجعتها ودفعتها للإبداع الأدبي، وكانت تقرأ لها الحكايات والقصص قبيل النوم.
ولم تكن أغاثا بدعا عن بنات جيلها ومجتمعها، فهي تلقت تعليمها في البيت، مثل فتيات كثيرات من العائلات الميسورة بحسب التقليد الذي كان متبعا آنذاك.
وبعد وفاة والدها بمدة قليلة، أرسلتها أمها إلى باريس لتدرس الموسيقى والغناء، وتتعلم العزف على البيانو، لكن رحلتها هذه انتهت بسرعة، ولم ترُق لها التجربة، كما أن أداءها لم يفلح في إقناع مدرسيها وأسرتها.
بعد العودة من فرنسا تجولت في أسفار سياحية كثيرة، وفي هذه السن بدأت موهبتها الأدبية تتفتق، وبدأت رواياتها تشق طريقها إلى المطابع.
التجربة الأدبية
ولع أغاثا غريستي بالكتابة والتأليف لازمها منذ الطفولة، فقد أصيبت بمرض ألزمها الفراش لما كانت طفلة، فنصحتها أمها بالتخفيف عن نفسها بكتابة قصص قصيرة، وبعد ذلك نشرت لها أول قصيدة في جريدة محلية بالعاصمة البريطانية لندن وهي في الحادية عشرة.
لكن أحد أكبر الحوافز التي أطلقت العنان لموهبتها، هو التحدي الذي رفعته في وجه أختها التي شككت في قدرتها على كتابة رواية بوليسية تجد طريقها للنشر، فقررت أن تثبت لها العكس.
وفعلا وجدت صعوبات وعراقيل في البداية، فأول رواياتها المعنونة “ثلوج على الصحراء” لم يقبلها الناشرون، وكتبت بعدها رواية “قضية ستايلز الغامضة” التي رفضها أيضا ستة ناشرين، وظلت في الرفوف أربعة أعوام قبل أن ترى النور.
كانت أغاثا في الثلاثين من عمرها، عندما نشرت صحيفة بريطانية تلك الرواية على حلقات في فبراير/شباط 1920، وبعدها صدرت في كتاب بالولايات المتحدة في أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه، ثم في بريطانيا في العام التالي، وبعد نشرها ربحت منها خمسة وعشرين جنيها إسترلينيا.
هي نفسها تقول في سيرتها الذاتية التي أمضت خمس عشرة سنة في كتابتها (1950-1965)، إن حادثة الطلاق من أرشيبالد “حولتها من كاتبة هاوية إلى محترفة؛ لأنها اعتمدت على الكتابة في إعالة نفسها”.
أكثر ما كتبت فيه أغاثا هو الرواية البوليسية، حتى اشتهرت بألقاب منها “ملكة الرواية البوليسية”، و”ملكة الغموض”، واشتهرت معها شخصيات رواياتها من أمثال المحقق البلجيكي “هرقل بوارو” والمحققة “الآنسة ماربل”.
نجاحها في هذا النوع من الكتابة جعل الناشرين يسجنونها فيه، ورفض كثيرون منهم أن تكتب في جنس آخر، وفرضوا عليها أن تستمر في الرواية البوليسية، لكنها رغم ذلك كتبت نحو ثلاثين مسرحية وأربع عشرة مجموعة قصصية، وألفت ست روايات غير بوليسية تحت اسم مستعار هو “ماري ويستماكوت”، وظل هذا سرا لم تكشف عنه لعقود.
وكانت تنوي التوقف عن الكتابة في منتصف الثلاثينيات من عمرها، لكن ارتفاع مبيعات رواياتها دفعها لتمديد الكتابة خمس سنوات أخرى، ثم بعدها قررت الاستمرار ولم تتوقف إلا قبل سنة واحدة من وفاتها.
زارت أغاثا كريستي الكثير من المناطق في العالم، مما أثرى تجربتها الروائية، من مصر إلى العراق إلى سوريا والأردن وفلسطين وإيران، وكل هذه الأماكن نجد لها صدى في رواياتها، إذ تحدثت عن مدينة البتراء والمسجد الأقصى وقبة الصخرة، وذكرت مدينة بيت لحم ومنطقة الجزيرة السورية، وتحدثت عن نهر النيل ومعابد الأقصر، وأدمجت حضارة الفراعنة في بعض أعمالها.
كما زارت بغداد ومدينة أور الأثرية عاصمة الدولة السومرية، واشتُهر بيت شعبي لها في العاصمة العراقية كانت تهوى المكوث فيه، وفيه كتبت بعض نصوصها، وصنفته وزارة الثقافة العراقية ضمن البيوت التراثية التي يمنع هدمها أو التعديل عليها.
دخلت أغاثا كريستي موسوعة غينيس لأن كتبها هي الأكثر مبيعا على مرّ التاريخ، وتُرجمت أعمالها إلى أكثر من 100 لغة، وبلغ عدد النسخ المبيعة من رواياتها ملياري نسخة بين المترجم والصادر باللغة الإنجليزية.
الوفاة
توفيت أغاثا كريستي في 12 يناير/كانون الثاني 1976، عن عمر يُناهز 85 عاماً في مدينة والينفورد الواقعة بولاية أوكسفورد شاير، في موطنها الأصلي بإنجلترا.
دُفنت بالقرب من باحة كنيسة سانت ماري في تشلسي، بعد أن اختارت قطعة أرض لمثواها الأخير مع زوجها ماكس مالوان قبل عشرة أعوام من وفاتها.
حظيت جنازتها بتغطية إعلامية واسعة، حضر لها مراسلون من مناطق مختلفة من العالم.
المصدر: موقع الجزيرة