سير
أخر الأخبار

سيرة حياة عبد العزيز الدوري "شيخ المؤرخين ومؤسس جامعة بغداد"


ولد عبد العزيز بن عبد الكريم الدوري عام 1919 في قريته الصغيرة الدور، وهناك درس الابتدائية، ثم انتقل إلى بغداد للالتحاق بالدارسة النظامية فيها، ويُمتدَح والده بأن أُفقه كان يتجاوز حدود البلدة، وكانت له صلات مستمرة في بغداد.

كانت متعة الدوري في الذهاب لسوق السراي وشارع المتنبي المعروف بشارع الأدباء والمكتبات، وهنا نشأ شغفه بالكتب والقراءة، فقد كان يجمع مصروفه المدرسي ليشتري به كتابا.

أكمل دراسته كلها في بغداد، ثم انتقل إلى بريطانيا، وكان من أوائل العراقيين الذين درسوا هناك، وتابع الدراسة في كلية الدراسات الشرقية في جامعة لندن، وقد تزامنت مرحلة دراسة البكالوريوس مع نشوب الحرب العالمية الثانية، فاضطر كثيرٌ من الطلاب لمغادرة المملكة المتحدة إلى بلادهم، غير أن تعرُّضَ إحدى البواخر التي تحملهم للقصف اضطَرَ الباقين للبقاء في لندن، وكان منهم المؤرخ الدوري.

رسالة الدكتوراه “مزيج بين التاريخ والاقتصاد العباسيين”

تابع عبد العزيز الدوري دراسة الدكتوراه في لندن، وكان يريد أن يدرس الاقتصاد، لكن بعد حصوله على البعثة رفضت الجامعة ذلك، وطلبت منه دراسة التاريخ، فاختار الحل الوسط في دراسة تاريخ الاقتصاد بناء على اقتراح أستاذه البروفيسور مينورسكي، واختار عنواناً لرسالة الدكتوراه “دراسات في الحياة الاقتصادية لوادي الرافدين في القرن الرابع الهجري”.

في ذلك الوقت لم يكن أحد يهتم بالاقتصاد، وكان الغرض من دراسته هذه الحقبة من تاريخ الدولة الإسلامية أنها كانت مرحلة مهمة من الناحية الاقتصادية، لكن المعلومات حولها كانت مبعثرة، وتطلَّب جمعها الصبر والإحاطة بالمواد الأولية قبل البدء في الكتابة.

كانت المصادر محدودة، وتناولت الرسالة ظهور المصارف في التاريخ الإسلامي لأول مرة، وكان من أهداف رسالته فتح آفاق جديدة للناس يمكن الاستفادة منها.

لقد كانت كتابته في تاريخ الاقتصاد جديدة في مختلف الجوانب؛ إذ وضع نهجاً جديداً للدراسات الأكاديمية التاريخية، وكانت له مساهمات في حقل المنهجية في التاريخ العباسي، وحتى في التاريخ الحديث.

كلية العلوم والآداب “أولى لبنات جامعة بغداد في باب المعظم”

عُرض على عبد العزيز الدوري العمل في إنجلترا، لكنه رفض، وفضل العودة إلى وطنه، وعند عودته فوجئ بأنه لم يجد مكاناً يعيّن فيه، رغم أنه أول عراقي يحصل على شهادة الدكتوراه في تخصصه، وكان هناك استغراب كبير بشأن كيفية حصوله على شهادة دكتوراه في خمس سنوات، واعتبروه حاصلا على البكالوريوس، ولم يعين إلا بعد وصول شهادته من إنجلترا.

عمل في دار المعلمين، وطُلب منه تأسيس كلية العلوم والآداب، وبعد خمس سنوات ضاقت البناية، فنقل كلية العلوم إلى بناية بالأعظمية، وبقيت كلية الآداب في باب المعظم، وبدأت كل كلية منهما تأخذ شكلها الخاص بها.

كان الهدف من إنشاء الكليتين أن تكونا نواة لجامعة بغداد، فتميزت كلية الآداب بالعلوم الاجتماعية، لذا أضفى الدوري طابعه الخاص في المنهاج العلمي، وشجع تلاميذه على النقد وتأليف الجمعيات العلمية، فكانت كلية الآداب نواة لجامعة بغداد، وبقي عميدا لها حوالي عشر سنوات، ثم عين رئيسا لجامعة بغداد عام 1949.

بعد ذلك بدأ الدوري بمشروع لفتح جامعتين: إحداهما في الموصل والأخرى بالبصرة، حتى يخفف أعباء السفر عن الطلاب في تلك المدن، وجعلهما تابعتين لجامعة بغداد، حتى يقتنع الناس بالالتحاق بهما، وفعلا أصبح في العراق بعد ذلك بخمس سنوات فقط ثلاث جامعات، وقد قام الدوري بوضع الأسس الأولى للدراسات العليا في العراق، بدأت بالعلوم الإنسانية، ثم توسعت للعلوم.

كان الدوري متواضعا ويحب تلاميذه، له صفات العالم، فقد كان صبوراً وهادئاً، واختار نظام الشرف في السنة الدراسية الرابعة في الجامعة، وهو نظام يعتمد على المرموقين في الصف الثالث في الكلية، ويضعهم في برنامج مكثف راق يؤهلهم فيه للبعثات العلمية والأكاديمية.

أستاذ التاريخ “ضحية نار التقلبات السياسية في العراق”

على الرغم من أن الدوري لم ينتسب لفئة، ولم ينتم إلى أي حزب سياسي، فإنه -كما يقول- كان أول من يصطلي بنار الثورات في العراق، فهو أستاذ التاريخ الذي يعتبر جزءاً لا يتجزأ من السياسة.

بعد ثورة الرابع عشر من تموز/ يوليو عام 1958 فُصل الدوري من عمله، لكنه عاد مرة أخرى، ثم فُصل مع عودة حكم حزب البعث في العراق، وأحيل إلى التقاعد، وحُجر على أمواله المنقولة أو غير المنقولة، مما اضطره إلى ترك العراق.

توجه إلى الأردن، وعمل في الجامعة الأردنية، بالرغم من أنه تلقى أكثر من دعوة مغرية للعمل في جامعات غربية، كجامعة هارفارد وجامعة برستن، لكنه رفضها جميعا، فلطالما اعتبر أن الدول الغربية عدو للأمة الإسلامية والعربية.

يقول تلميذه الدكتور رياض حمود: إنهم كانوا محظوظين بالدكتور الدوري الذي رسم معالم المنهج العلمي في دراسة التاريخ، ووجههم إلى القواعد الأساسية في البحث، وقد سلط الضوء على مساحات من تاريخنا لم يسلط الضوء عليها من قبل، مثل الجوانب الاقتصادية.

كتابة التاريخ الموضوعي “إرث للباحثين في العالم العربي والخارج”

اعتبر عبد العزيز الدوري أن كتابة التاريخ الموضوعي يجب الاستناد إليها، وأن ذلك يتطلب النظر إلى التاريخ بشموليته والصورة الكلية له، وهذا هو الأهم، ولا ينبغي تقسيم التاريخ، ولا بد من النظر إلى النسيج كله بجوانبه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

ويقول تلاميذ الدوري: إن ما قدمه أستاذهم في التاريخ الإسلامي شكَّل إرثا حقيقيا، وقد استفاد منه المؤرخون في العالم العربي والخارج ممن كتبوا عن التاريخ العربي والإسلامي.

وبالإضافة لكتابته في التاريخ الحديث، كان الدوري يؤمن بأن التاريخ سلسلة متكاملة يجب ألا تنقطع، وهي تتشكل من التاريخ القديم، والتاريخ الإسلامي، والتاريخ الحديث، واعتبر أن التاريخ الإسلامي يجب أن يُستثمر كمحفز اجتماعي للعرب والمسلمين المعاصرين.

“التكوين التاريخي للأمة العربية” دراسة في الهوية والوعي

تحدث الدوري عن الأمة، وتساءل هل كان هناك أمة تكونت وطرحت معالمها في التاريخ؟ وإذا كانت هناك أمة، فما هي معالمها؟ وكيف تكونت في العصر الحديث؟ لم يكن حديث الدوري هذا عن تكوّن الأمة الإسلامية، لأنها من بدايتها مشخصة وقائمة، ولكن أثناء التطور تكونت أمة عربية، فكيف تكونت؟

كان كتاب “التكوين التاريخي للأمة العربية” دراسة في الهوية والوعي، بين كيفية تكوين البدايات وعلى أي أساس تكونت ومتى بدأت تتضح معالمها؟ لذلك فإننا نتحدث عن أمة لها أساس في تراثنا، وليست مجرد اقتباس وحديث.

وفي الختام، لا بد من ذكر الفضل لأهل الفضل، فقد كان لزوجته أثر كبير في دعمه والوقوف إلى جانبه، إذ حملت عنه، وتحملت من أجل اجتيازه بعض المحن والظروف الصعبة في حياته، واعتبرته أستاذها وابن خالتها وزوجها.

توفي عبد العزيز الدوري في الأردن في 19 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2010، وفي قلبه اشتياق كبير لوطنه العراق، اشتياق لدجلة، ولأمسيات بغداد وهواها وتمرها، وأشياء كثيرة لطالما سرى حبها في دمه وكيانه.

 

 

المصدر: الجزيرة الوثائقية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى