سير

سيرة طاووس بن كيسان وحكايته مع الوالي محمد بن يوسف الثقفي

مقدمة

يُعد طاووس بن كيسان من كبار التابعين الذين تركوا أثرًا واضحًا في التاريخ الإسلامي من خلال علمه وورعه وزهده. اشتهر بمواقفه الصلبة أمام الحكام الظالمين، ومن أبرز تلك المواقف حكايته الشهيرة مع والي اليمن، محمد بن يوسف الثقفي، شقيق الحجاج بن يوسف الثقفي. هذه القصة تعكس شجاعة طاووس ورفضه للظلم، وهي واحدة من المواقف التي تُستشهد بها عند الحديث عن العلماء الذين لم يخضعوا للسلطة الجائرة.

 

نبذة عن طاووس بن كيسان

نسبه ونشأته

اسمه الكامل طاووس بن كيسان الهمداني، وُلِد في اليمن في أواخر عهد الخلفاء الراشدين، ويُعتقد أنه نشأ في بيئة علمية ساعدته على تلقي علوم الدين من الصحابة الكبار. كان من الموالي، لكنه حظي بمكانة رفيعة بسبب علمه وتقواه.

طلبه للعلم وتأثره بالصحابة

عاصر طاووس عددًا من الصحابة ونهل من علمهم، ومن أبرز من تأثر بهم:

  • عبد الله بن عباس: كان من أبرز شيوخه، وتأثر به كثيرًا في الفقه والتفسير.
  • عبد الله بن عمر: تعلم منه الكثير عن الزهد والورع.
  • عائشة بنت أبي بكر: كان من التابعين الذين نقلوا عنها العديد من الأحاديث.

بفضل هذه الصحبة المباركة، أصبح طاووس من أكثر التابعين علمًا وزهدًا، وكان يُشار إليه بالبنان كأحد أئمة عصره.

زهده وورعه

كان طاووس معروفًا بتواضعه وابتعاده عن الدنيا، حيث رفض المناصب والجاه، وفضَّل العيش ببساطة رغم ما عُرِض عليه من أموال وهدايا من الأمراء والحكام. لم يكن يخشى في الله لومة لائم، وكان يقف في وجه الظلم دون خوف.

حكايته مع محمد بن يوسف الثقفي

خلفية القصة

عُيّن محمد بن يوسف الثقفي واليًا على اليمن من قِبَل أخيه الحجاج بن يوسف الثقفي، وكان معروفًا بالبطش والظلم شأنه شأن أخيه. سعى في ولايته إلى قمع المعارضين وإحكام السيطرة على المنطقة بالقوة، ولم يكن يقبل النقد أو الاعتراض من أي شخص.

موقف طاووس بن كيسان

ذات يوم، استدعى محمد بن يوسف الثقفي طاووس بن كيسان لمجلسه، ربما ليكسبه إلى صفه أو ليختبر مدى ولائه. وعندما دخل طاووس، لم يُظهر أي مظهر من مظاهر التملق أو الخضوع كما كان يفعل الآخرون أمام الولاة.

جلس طاووس بلا رهبة، ولم يُبدِ أي اهتمام بالمراسم الرسمية التي كانت تُفرض على من يدخل مجلس الوالي. فقال له محمد بن يوسف متعجبًا:

“لمَ لمْ تقبّل يدي كما يفعل الآخرون؟”

فأجابه طاووس بكل ثقة وإيمان:

“لأنني لم أرَها مرفوعة عن النار!”

كان في هذه الإجابة إشارة واضحة إلى أن السلطة التي يمتلكها محمد بن يوسف لن تُغنيه عن الحساب يوم القيامة، وأنه لا يستحق الاحترام لمجرد كونه واليًا، بل بما يفعله من أعمال صالحة.

ثم قال له محمد بن يوسف:

“لِمَ لمْ تقف لي كما يفعل الناس؟”

فقال طاووس:

“إني سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: إذا أردت أن تنظر إلى رجل من أهل النار فانظر إلى رجل جالس والناس قيام حوله.”

هذه الكلمات كانت بمثابة صدمة للوالي، فقد بيّن طاووس أن السلطة الحقيقية ليست في التكبر والاستعلاء، وإنما في العدل والتواضع.

نتائج الموقف

أثرت كلمات طاووس في الوالي بشدة، وقيل إنه لم يجرؤ على إيذائه خوفًا من سمعته بين الناس، فقد كان محبوبًا ومُهابًا بسبب علمه وورعه. تعكس هذه القصة جرأة العلماء في وجه الظلم، وتُعتبر من المواقف التي تُضرب بها الأمثال في قوة الكلمة أمام الحاكم الجائر.

دروس وعبر من القصة

1. قوة الإيمان والشجاعة في قول الحق

كان طاووس لا يخشى الحاكم رغم بطشه، لأنه كان يؤمن بأن القوة الحقيقية ليست في السلطة الدنيوية، بل في التقوى والعدل. هذا يعلّمنا أن لا نخشى إلا الله، وألا نتملق الظالمين مهما كانت قوتهم.

2. الزهد في الدنيا

لم يكن طاووس يبحث عن رضا الحكام أو المناصب، بل كان هدفه الأساسي هو نشر العلم والحق. هذا يوضح أهمية التمسك بالمبادئ وعدم الانجراف وراء المصالح الشخصية.

3. التأثير بالكلمة الصادقة

على الرغم من أن طاووس لم يكن مسلحًا إلا بالعلم والإيمان، إلا أن كلماته كانت أشد وقعًا على محمد بن يوسف من أي سلاح. وهذا يؤكد أن قوة الكلمة الصادقة قد تغيّر القلوب، حتى قلوب الظالمين.

وفاة طاووس بن كيسان

توفي طاووس بن كيسان في مكة المكرمة في عهد الخليفة هشام بن عبد الملك، وقد ترك وراءه إرثًا علميًا كبيرًا، حيث نقل عنه العديد من العلماء الأحاديث والفقه، وكان من الشخصيات المؤثرة في عصره.

خاتمة

إن قصة طاووس بن كيسان مع محمد بن يوسف الثقفي تُعد من أعظم الأمثلة على الشجاعة في قول الحق. لقد أثبت أن العالم الحقيقي لا يُساوم على مبادئه، ولا يخضع للظلم، بل يكون صوتًا للحق في وجه الطغيان. ما أحوجنا اليوم إلى مثل هذه النماذج التي تُجسد المعنى الحقيقي للعلم والورع في مواجهة الفساد والاستبداد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى