قراءة في كتاب "رحلة ميدانية إلى عوالم ديكارت: حول تعثّر الحداثة عربياً" لمحمد كزو

مقدمة
يُعد كتاب “رحلة ميدانية إلى عوالم ديكارت: حول تعثّر الحداثة عربياً” للمفكر والباحث محمد كزو أحد الأعمال الفكرية المعاصرة التي تسعى إلى مساءلة الواقع الثقافي العربي من خلال استعادة أحد أهم رموز الفكر الغربي الحديث، وهو رينيه ديكارت، الذي يُنظر إليه على نطاق واسع كأب للفلسفة الحديثة.
يقدّم كزو في هذا العمل رحلة فكرية فلسفية غنية، ينطلق فيها من ديكارت ليطرح تساؤلات جوهرية حول أسباب تعثّر الحداثة في العالم العربي، في محاولة جادة لفهم الإشكال المعرفي الذي يعيق تطور المجتمعات العربية باتجاه الحداثة العقلانية.
المنطلق الفلسفي: لماذا ديكارت؟
يبدأ كزو كتابه بسؤال جوهري: لماذا ديكارت؟ ما الذي يجعل من هذا الفيلسوف، الذي عاش في القرن السابع عشر، مدخلاً صالحاً لفهم تعثر الحداثة في سياقات مغايرة، كالسياق العربي؟
الإجابة عند كزو تتجاوز البعد الأكاديمي: فديكارت، في نظره، لم يكن فقط منظّراً، بل كان لحظة انقلاب معرفي شكلت نقطة مفصلية في انتقال العقل الغربي من سلطة الموروث الكنسي إلى سلطة العقل والشك والمنهج العلمي.
اختار كزو ديكارت لأنه يمثّل الشرارة الأولى للعقلانية الأوروبية الحديثة، وهي العقلانية التي أسّست لاحقاً للعلم الحديث، ولأنماط التفكير التي حررت الإنسان الغربي من قيود الفكر اللاهوتي والميتافيزيقي الجامد. هذا التحول لم يحدث، برأي كزو، في الثقافة العربية، أو على الأقل لم يكتمل، الأمر الذي يدفعه إلى المقارنة النقدية بين المسارين.
الفكر الديكارتي والمنهج
يركّز محمد كزو على المنهج الديكارتي القائم على الشك كطريق لليقين، ويرى أن هذه المنهجية كانت ثورية بامتياز. فقد تخلّى ديكارت عن سلطة الموروث، وبدأ من نقطة الصفر، باحثاً عن أساس لا يمكن التشكيك فيه. هذه النقطة تجلّت في قوله الشهير: “أنا أفكر، إذن أنا موجود”. ومن هذه القاعدة العقلية، بنى ديكارت نسقه المعرفي، موحّداً بين العقل والتجربة، ومرسّخاً للعلم بوصفه طريقاً للمعرفة الموضوعية.
يرى كزو أن هذا المنهج القائم على التحليل المنطقي، والتجريد، والتركيب، والتشكيك في كل ما هو مألوف، كان شرطاً ضرورياً لولادة العقل الحداثي في أوروبا. غير أن هذا الشرط لم يتحقق في الثقافة العربية الإسلامية، التي بقيت أسيرة النقل والتقليد.
أزمة الحداثة عربياً: قراءة نقدية
يطرح كزو سؤالاً مركزياً في كتابه: لماذا لم تنجح الحداثة في العالم العربي؟ ولماذا بقيت الحداثة لدينا سطحية، مظهرية، ومجتزأة؟
في تحليله، يرى كزو أن الحداثة العربية تعرّضت للقطيعة بدل أن تتأسس على تواصل نقدي مع التراث، وأن هناك سوء فهم جوهري لطبيعة الحداثة نفسها، التي ليست مجرد تقنيات أو مؤسسات، بل هي في الجوهر تحول جذري في بنية التفكير، وفي علاقة الإنسان بالمعرفة، وبذاته، وبالسلطة.
يشير كزو إلى أن معظم محاولات التحديث العربية – سواء من قبل الأنظمة أو من قبل النخب الثقافية – كانت شكلية ومجزأة، تستورد منجزات الحداثة الغربية دون فهم خلفياتها الفلسفية والمعرفية. وبذلك، فإنها فشلت في تأسيس مشروع حداثي أصيل، وتحوّلت إلى تقليد مشوّه.
التراث كعقبة معرفية
واحدة من أكثر القضايا التي يتناولها محمد كزو بعمق هي العلاقة بين الحداثة والتراث. ففي حين أن الحداثة الغربية جاءت كنقد جذري للتراث المسيحي الوسيط، فإن الحداثة العربية – حسب كزو – لم تجرؤ على الدخول في صراع مباشر مع التراث الديني.
فقد بقي التراث، خصوصاً الديني، محاطاً بالقداسة، مانعاً أي إمكانية لإعادة التفكير فيه، أو إخضاعه للنقد العقلي. وهنا يشير كزو إلى أن الفارق بين “التنوير” و”التزيين” هو الفارق بين مشروع فكري تحرري، ومشروع سطحي يقتصر على المظهر دون الجوهر.
وهو لا يدعو إلى قطيعة مع التراث بالمعنى العدمي، بل إلى نقده من الداخل، عقلنته، وفهمه في سياقه التاريخي، من أجل تجاوزه بشكل خلاق، تماماً كما فعل الأوروبيون مع تراثهم الكنسي.
الحداثة كوعي ذاتي متجدد
من أبرز أطروحات محمد كزو في هذا الكتاب هو أن الحداثة ليست لحظة زمنية انقضت، بل هي وعي مستمر بالذات، وبالعالم، وبالآخر. وبالتالي، فإنها ليست مجرد منتج غربي يمكن نقله إلى المجتمعات الأخرى، بل هي سيرورة ذات طابع تاريخي – معرفي، تتطلب استعداداً ذاتياً لخوض مغامرة النقد، والتجديد، والمراجعة.
يرى كزو أن أحد أسباب فشل الحداثة عربياً هو غياب مفهوم “الفرد العاقل الحر”، الذي يمثل جوهر المشروع الحداثي. ففي المجتمعات العربية، لا يزال الفرد خاضعاً لسلطة الجماعة، والعائلة، والطائفة، مما يعيق بناء العقل المستقل.
منهجية كزو في القراءة والتحليل
يتميّز كتاب محمد كزو بمنهج تحليلي-تفكيكي، حيث لا يكتفي بعرض أفكار ديكارت، بل يعمل على تفكيكها، وإعادة تركيبها في ضوء الإشكالية العربية المعاصرة. كما يستحضر في تحليله مفكرين غربيين وعرب، مثل فوكو، عبد الله العروي، محمد عابد الجابري، وغيرهم، ليعزز رؤيته النقدية الشاملة.
الكتاب مكتوب بلغة تجمع بين العمق الفلسفي والوضوح التعبيري، مما يجعله قابلاً للقراءة من قبل المختصين وغير المختصين. وقد حرص المؤلف على ربط الفلسفة بالواقع، وجعل التفكير الفلسفي وسيلة لفهم الأزمات الاجتماعية والثقافية، لا مجرد تمرين ذهني معزول.
نحو مشروع حداثي بديل
لا يكتفي محمد كزو بالنقد، بل يدعو إلى تأسيس مشروع حداثي عربي مستقل، لا يقوم على استيراد النموذج الغربي، ولا على التمترس في حصون الماضي، بل على تجاوز الاثنين معاً.
ويكمن هذا المشروع، في رأيه، في:
1. إعادة الاعتبار للعقل النقدي كمرجعية أساسية للمعرفة.
2. تحرير الفرد من التبعية والانغلاق.
3. فهم التراث من خلال أدوات العقل المعاصر.
4. تبني المنهجية العلمية الفلسفية في بناء رؤية للعالم.
ويرى أن المعركة الأساسية هي معركة الوعي، وأن النهضة لن تتحقق بمجرد تغيير الأنظمة أو تبني تقنيات حديثة، بل تتطلب ثورة فكرية داخلية تبدأ من العقل وتنتهي بالتحرر.
خاتمة
يقدّم كتاب “رحلة ميدانية إلى عوالم ديكارت” لمحمد كزو طرحاً مميزاً في الساحة الفكرية العربية، حيث يربط بين الماضي الفلسفي والواقع المعاصر في إطار نقدي تحليلي عميق.
وهو دعوة صريحة لإعادة بناء العقل العربي، لا عبر القطيعة المطلقة مع التراث، ولا بالاستلاب الكامل للنموذج الغربي، بل عبر تأسيس عقل نقدي حر، قادر على إنتاج حداثته الخاصة.
هذا الكتاب لا يُقرأ كتحليل لأفكار ديكارت فقط، بل كمرآة نقدية للواقع العربي، وفرصة لإعادة التفكير في المسارات التي سلكناها، والتي لا تزال تحتاج إلى مراجعة عميقة وجذرية.
لمعرفة المزيد: قراءة في كتاب “رحلة ميدانية إلى عوالم ديكارت: حول تعثّر الحداثة عربياً” لمحمد كزو