قصة جي. كيه. رولينغ: من ظلال الفقر إلى عرش الأدب

في زوايا المقاهي الباردة في مدينة إدنبرة، حيث يُقدَّم الشاي في أكواب رقيقة وتُكتب الأحلام على ورق أصفر، جلست امرأةٌ ترتجف أطرافها لا من زمهرير الجو، بل من زمهرير الحياة… تلك كانت جوان كاثلين رولينغ، المرأة التي لم يكن أحد يعرف اسمها حينها، لكنها كانت على موعد مع التاريخ، والأدب، وملايين القرّاء.
✍️ طفولة يغلفها الحبر والحلم
وُلدت جوان في 31 يوليو 1965 في بلدة ييت غرب إنجلترا، وبدأت علاقتها بالقصص منذ نعومة أظافرها. كتبت أول قصة خيالية وهي في السادسة فقط، عن أرنب يُدعى “رابي”، مما دفع والدتها لتصمت، وتبتسم، وكأنها ترى مستقبلًا يتسلّل من بين سطور خربشات الطفلة.
كبرت رولينغ في منزل بسيط، وكانت والدتها آن رولينغ، المصابة بالتصلب اللويحي، أكبر مصدر حنان وإلهام لها. فقدان والدتها لاحقًا عام 1990، وهي لم تبلغ الثلاثين، سيظل ندبة في قلبها، وشرارة أشعلت فيها طاقة دفينة للكتابة.
📚 بذور هاري بوتر: ولادة السحر على متن قطار
في عام 1990، وبينما كانت تستقل قطارًا متجهًا من مانشستر إلى لندن، هبطت الفكرة عليها كالوحي: صبي صغير لا يعرف أنه ساحر، يتلقى رسالة تغير حياته. تقول رولينغ إنها لم تكن تملك قلماً آنذاك، وكانت تخشى أن تنسى فكرتها، لكن شيئًا فيها أخبرها أنها لن تنساها أبدًا.
وهكذا وُلد “هاري بوتر” في خيالها، لكنه لم يخرج إلى العالم إلا بعد سنوات من الظلم والضياع والدموع.
🥀 من الطلاق إلى العتمة: سنوات الظل
انتقلت رولينغ إلى البرتغال، حيث عملت مدرسة لغة إنجليزية، وتزوجت من صحفي برتغالي يُدعى جورج أرنتس. لكن الزواج لم يدم سوى 13 شهرًا، وانتهى وهي أم عزباء لابنة تُدعى جيسيكا. عادت إلى إسكتلندا، مكسورة القلب، ومُثقَلة بالديون، وتعتمد على المساعدات الاجتماعية لتطعم طفلتها.
في تلك الفترة، وصفت نفسها بأنها “أفقر امرأة في بريطانيا لم تسكن الشوارع”، تعاني من الاكتئاب، لدرجة أنها استوحت من حالتها كائنات “الدمنتورز” التي تمتص السعادة من النفوس.
📖 هاري بوتر يرى النور بعد 12 رفضًا
لم يكن من السهل أن تنشر امرأة مجهولة رواية عن سحر ومدارس ومكانٍ يدعى “هوغوورتس”. رفضت 12 دار نشر مخطوط روايتها الأولى “هاري بوتر وحجر الفيلسوف”. ولكن دار Bloomsbury الصغيرة وافقت أخيرًا، بفضل ابنة رئيس التحرير ذات الثماني سنوات التي قرأت أول فصل، وألحت على والدها أن ينشره.
طُبعت الدفعة الأولى في عام 1997 بعدد محدود لا يتجاوز 500 نسخة، بيعت منها لاحقًا نسخة واحدة فقط في مزاد بأكثر من 47100 جنيه إسترليني!
💫 انفجار الظاهرة: هاري بوتر يجتاح العالم
لم يكن أحد يتوقع الزلزال. فقد تحوّلت رواية رولينغ الأولى إلى سلسلة نارية، لم تهدأ نيرانها لعقود. بلغ عدد الكتب المباعة من سلسلة هاري بوتر أكثر من 600 مليون نسخة، تُرجمت إلى أكثر من 80 لغة، وتحولت إلى سلسلة أفلام من إنتاج وارنر برذرز، حصدت أكثر من 7.7 مليار دولار في شباك التذاكر، لتصبح واحدة من أنجح سلاسل الأفلام في التاريخ.
وأصبحت رولينغ أول كاتبة في العالم تُدرج في قائمة فوربس لأصحاب المليارات، قبل أن تخرج منها لاحقًا بعد التبرع بجزء كبير من ثروتها للأعمال الخيرية، خاصة لجمعية دعم التصلب اللويحي، تخليدًا لذكرى والدتها.
🧙♂️ الأبطال خلف الكواليس
لم تكن رولينغ وحدها في الرحلة. فقد ساعدها العديد من الأسماء البارزة في إيصال السحر إلى العالم:
ديفيد هايمان: المنتج الرئيسي لأفلام هاري بوتر، وآمن بالسلسلة منذ البداية.
دانيل رادكليف، إيما واتسون، روبرت غرينت: الثلاثي الذهبي الذي جسّد شخصيات هاري، وهرميون، ورون، وأحبّهم الملايين.
ستيف كلوفز: كاتب السيناريو الذي ترجم السرد الأدبي إلى نص سينمائي بارع.
جون ويليامز: المؤلف الموسيقي الذي لحّن مقطوعة “Hedwig’s Theme” الساحرة، والتي أصبحت رمزًا عالميًا.
📚 أعمال أخرى: رولينغ خلف الستار
لم تقف رولينغ عند “هاري بوتر”. كتبت تحت اسم مستعار “روبرت غالبريث” سلسلة بوليسية عن المحقق “كوموران سترايك”، وقد نُشرت أول رواية في السلسلة عام 2013 بعنوان The Cuckoo’s Calling. أثبتت من خلالها قدرتها على النجاح حتى حين لا يُعرف اسمها.
أطلقت أيضًا مسرحية Harry Potter and the Cursed Child، ووسّعت عالم السحر عبر سلسلة أفلام Fantastic Beasts.
💔 الجدل لا يغيب عن الكاتبة
رغم نجاحها الساحق، لم تَسلم رولينغ من الجدل، خاصة بعد تغريدات اعتُبرت مسيئة لمجتمع المتحولين جنسيًا. ورغم أن كثيرين من معجبيها عبّروا عن خيبة أمل، إلا أن تأثيرها الأدبي لا يزال طاغيًا، وصدى كلماتها لا يزال يتردد في قلوب الملايين.
🌹 من رماد الألم، تفتحت الزهرة
قصة جي. كيه. رولينغ ليست مجرّد نجاح تجاري أو ظاهرة شعبية. إنها قصة امرأة آمنت بالحبر حين لم يؤمن بها أحد، واختارت الكلمات سلاحًا في وجه الفقر، والوحدة، والاكتئاب.
كتبت في يومٍ ما:
“من المستحيل أن تعيش دون أن تفشل في شيء… إلا إذا عشت بحذر شديد لدرجة أنك قد لا تكون قد عشت على الإطلاق — وفي هذه الحالة، تكون قد فشلت تلقائيًا.”
رولينغ لم تعش بحذر. بل عاشت بشغف، وكتبت بالسحر، وحرّكت قلوب قرّاء من جميع الأعمار.