قناع بلون السماء – باسم خندقجي
فكرة قناع لون السماء جميلة، ماتعة، وفيها قدر جيد من البراعة الأدبية والسرد الأدبي – التاريخي، كما أنَّ لغتها جميلة وعذبة، وفيها جانب توثيقيُّ لا بأس به.
انطلق باسم من فكرة عبقرية للمقابلة بين الهويتين الفلسطينية والإسرائيلية، غير أنَّ تمثيلها كان ضعيفاً في العمل، وأقرب إلى الدراما والسرد البسيط منه إلى التعقيد الذي يناسب الفكرة. أن يكتب أحدهم عن شاب فلسطيني انتحل هوية إسرائيلي وعمل في التنقيب عن الآثار في الداخل المُحتل، أمرٌ مُذهل إذا تناول فكرته على محمل الجد ومنحها القدر الذي يكفيها من العناية والتفكير والاهتمام، فموضوع الهويتين الفلسطينية والإسرائيلية مُتشابك إلى درجة غريبة، ويُمكن التفلسف فيه بطريقة تفضي إلى آفاق عديدة مُهمة، ولكنَّ العمل ظلَّ بسيطاً للغاية في الطرح، فجاءت الحوارات بين الهويتين بسيطة وغريبة، ولا تعبِّر عن عمقٍ من الواجب تبيانه.
إقرأ المزيد:الخطاب: بحثٌ في بنيته وعلاقاته ومنزلته في فلسفة ميشيل فوكو
إثر هذا التمثيل الضعيف للفكرة، كانت الأحداث متوقعة بسبب ضعف الحبكة في الأصل، فعندما وصلتُ إلى منتصف الرواية علمتُ أنني سأنتهي وقد خاب أملي في أن يصعد الكاتب بالفكرة إلى حيث مكانها، وبالفعل كانت الأحداث متدهورة باستمرار حتى انتهت نهاية عادية ودرامية، خالية من العمق النفسي الضروري لشرح التعقيد الذي عاشه نور، والتحوُّل الذي حلَّ عليه فجأة مُتخلصاً من قناعه أخيراً، لا سيَّما بعد الإصرار المبدئي منه على هذا القناع ورؤيته فيه أهمية لروايته التي يكتبها حول مريم المجدلية.
إنَّ تطوراً مثل هذا يطرأ على الشخصية يجب أن يُقدم بصورة مُقنعة للقارئ، لذلك افتقدتُ العنصر الفلسفي في العمل، فلا يمكن شرح التعقيد الهوياتيِّ إلا ببُعد فلسفي – نفساني، يقف على طبيعة إنسانية اختلجت في نفس البطل ودفعته إلى هذا الإصرار أو ذاك التحوُّل.
يحتاج الكاتب إلى تناول مواضيعه بقدر الأهمية الذي يناسبها، فتبسيط السرد لا يكون في مصلحة القارئ بقدر ما يكون مُخلاً بالصورة التي يريد رسمها، ولا أدري إن كان الكاتب بالفعل يفضِّل التبسيط أم أن الأسلوب في العموم مصبوغ به، ولكنني أتمنى أن تكون محاولاته جادة في البعد عن تبسيط المسائل التي تكون غاية في التعقيد، فمن الأفضل أن يُقدم عملاً معقداً للقارئ البسيط، يرفع من فكره ويفتح له الأبواب، بدلاً من تقديم عمل بسيط “يناسبه” فيمنحه المواضيع بطريقة سطحية ومؤلمة.
تمثَّل ثقل الرواية في السرد التاريخيِّ والتوثيقيِّ لبعض الأحداث التاريخية الأليمة، وكان ذلك جيداً جداً، إذ وقف باسم على ذكر بعض القرى الفلسطينية التي إما قُتل أهلها أو هُجروا قسراً من بيوتهم، ليتم جرفها بعد ذلك وتحويلها إلى منتزهات ومواقع أثرية وأماكن لزرع الشجر، كان الحفر التاريخي الذي تبناه على ألسنة الشخصيات غاية في الأهمية، فهو جزء من توثيق المأساة الفلسطينية التي تُستبدل اليوم بمظاهر سخيفة من التذكُّر والنسيان. إنها محاولة جيدة من الكاتب، رغم كلِّ ما تفتقر إليه من عناصر مُهمة جعلت الفكرة تتهاوى في الطرح حتى باتت ضعيفة للغاية.
هذا نقدٌ للرواية التي أردتُّها أن تكون أفضل بكثير، وهو نقد موضوعي يشمل الرواية فقط بعناصرها وفكرتها ومقوماتها، غير أنَّني أؤمن بأنَّ للموضوعية مكانها وسياقها، فإذا افترضنا أن الرواية كُتبت في أجواء عادية، وأنَّ كاتبها حُر طليق، يعيش حياته خارج القضبان، يعمل ويقرأ ما يريد ويرتحل إلى أيِّ مكانٍ يريد التوثيق منه بصورة أفضل (بدلاً أن يطلب ذلك من د. جوني منصور مثلاً أو يعتمد على مُخيلته)، وإن تصورنا أن كتابة العمل تمَّت في منزله الآمن، بين عائلته وأصدقائه، من دون تهديدٍ يُطبق عليه، لكان حرياً بنا النقد إلى أبعد درجة، لنساعده في المرات القادمة على تجاوز نفسه والبساطة وتطوير أسلوبه، لكان نقدنا مُعيناً قوياً له على الإبداع المُستمر.
ولكنَّ الرواية كُتبت في السجن، حيث تقييدات الاحتلال المُستمرة والمصادرة المُتكررة للأوراق والدفاتر، وحيث الحبس الانفرادي والظروف القاهرة التي يتعرض لها باسم وغيره من السجناء الفلسطينيين، وحيث الاستعانة بشتى الوسائل لإخراج الأوراق المتفرقة ومن ثم جمعها من جديد وتنسيقها على هيئة كتاب.
لا يُمكن للمرء احتمال الكثير من الأمور، لا سيَّما إن كانت خنقاً لروحه الإنسانية التي تريد أن تسرق الإبداع وتسرِّبه إلينا، لذلك، قد لا أرى في الرواية أهمية كبيرة، بل قد أراها ضعيفة في المبنى والتمثيل، ولكنها تظل عملاً كُتب في ظروف صعبة للغاية، وتظل قصَّتها، وقصة بقية روايات باسم، وقصص بقية الأعمال الأدبية التي كُتبت في السجون، أجدر بالسرد والتناول من المواضيع التي تضمُّها.
يقول باسم في إحدى الفقرات: “السجن أفظع واقعة في الحياة … غربة حديدية صدئة … وأما السجن الأكبر فأنت من تحبس نفسك به … أنت من تصنعه”، ولمحاولاته الإبداعية المُستمرة الشكر الجزيل، والتقدير منا جميعاً، علَّ الحُرية تُكتب له يوماً، ولجميع الأسرى الفلسطينيين.
أما بشأن الغلاف، فهو سيء للغاية، تستحق الرواية غلافاً جديداً في الطبعات القادمة، أكثر تناسقاً مع موضوعها واحترافيةً.
[المصدر: موقع سرى]