لماذا نتذكر؟ رحلة في دهاليز الذاكرة البشرية من منظور علمي وإنساني

في عالم يعجّ بالمعلومات والمشتتات، تتجلى الذاكرة كمرساة للهوية، وجسر يربط الماضي بالحاضر، ووسيلة نحتفظ بها بما يهمّنا ويمسّنا. في كتابه “لماذا نتذكر: إطلاق عنان قوة الذاكرة للاحتفاظ بما يهم”، يقدم عالم الأعصاب الأمريكي تشاران رانجاناث رؤية جديدة ومذهلة لعلم الذاكرة، بعيدة عن النصائح السطحية أو التمارين العقلية الرائجة. إنه كتاب لا يسعى لتعزيز قدرتنا على تذكر قائمة المشتريات، بل لفهم كيف ولماذا تتشكل ذكرياتنا، ولماذا ننسى، وما الذي يجعل تجربة معينة تترك أثرًا خالدًا في عقولنا.
من هو تشاران رانجاناث؟
تشاران رانجاناث أستاذ علم النفس في جامعة كاليفورنيا، دافيس، ومدير مختبر الذاكرة والإدراك العصبي. قضى سنوات طويلة في دراسة الدماغ البشري وآليات الذاكرة، متتبعًا كيفية تفاعل البنية العصبية للدماغ مع السياقات العاطفية والاجتماعية والمعرفية في تشكيل ما نتذكره وما ننساه. كتابه هذا، الذي صدر عام 2023، هو ثمرة عقدين من البحث العلمي، ممزوجًا بتجارب إنسانية وتأملات فلسفية.
جوهر الكتاب: الذاكرة ليست جهاز تسجيل
يبدأ رانجاناث بنقض الصورة النمطية للذاكرة بوصفها “آلة تسجيل” تحفظ كل شيء بدقة. بل يرى أن الذاكرة وظيفة تطورية انتقائية، لا تهدف لحفظ كل شيء، بل ما هو مهم لبقائنا وهويتنا وأهدافنا المستقبلية. هذه الفكرة تُغيّر منظور القارئ منذ الصفحات الأولى، إذ تتحول الذاكرة من خزان سلبي للمعلومات إلى أداة نشطة للتأويل والتنظيم والتخطيط.
لماذا نتذكر أشياء وننسى أخرى؟
يجيب رانجاناث على هذا السؤال الجوهري من خلال محاور عدة، أبرزها:
- السياق العاطفي: اللحظات التي تحمل شحنة عاطفية قوية تُسجل في الدماغ عبر تفاعل الحُصين (hippocampus) واللوزة الدماغية (amygdala)، مما يمنحها أولوية في التذكر.
- الترابط المعنوي: كلما ارتبطت المعلومة بتجربة شخصية أو معنى عميق، زادت فرصتها في البقاء في الذاكرة طويلة المدى.
- النية والغرض: نحن لا نتذكر كل ما نراه أو نسمعه، بل ما نوجه انتباهنا نحوه بقصد أو نية مسبقة.
“الذاكرة ليست أرشيفًا من الماضي، بل مرآة لأهم ما يهمنا في الحاضر والمستقبل.” — تشاران رانجاناث
فصول الكتاب: هيكل معرفي عميق
ينقسم الكتاب إلى عشرة فصول، كل منها يعالج زاوية مختلفة من الذاكرة:
- ما هي الذاكرة؟ — يفكك المفاهيم الخاطئة ويضع الأساس العلمي.
- نظامنا الانتقائي — كيف يختار الدماغ ما يُخزن وما يُهمل.
- الذاكرة والعاطفة — العلاقة بين المشاعر والتذكر.
- النسيان: نعمة أم نقمة؟ — كيف يساعدنا النسيان على البقاء سليمين نفسيًا.
- التذكر الخلاق — كيف نصنع “ذكريات زائفة” دون قصد.
- الهوية والذاكرة — كيف تُشكل الذكريات مفهوم الذات.
- أثر الآخرين — دور المجتمع في تعزيز أو طمس الذاكرة.
- الذاكرة عبر العمر — من الطفولة إلى الشيخوخة.
- أمراض الذاكرة — مثل الزهايمر وفقدان الذاكرة.
- كيف نُحسن تذكّر ما يهم؟ — دروس عملية قائمة على البحث.
ما يميز الكتاب: المزج بين العلم والحياة
يتفرد رانجاناث بأسلوبه الذي يمزج الصرامة العلمية بالسرد القصصي. فهو لا يكتفي بعرض نتائج الأبحاث، بل يرفقها بقصص حقيقية من مرضى، وأفراد عاديين، وتجارب شخصية عاشها أو رآها. يضرب مثلًا بأم فقدت القدرة على تذكر يوم ولادة ابنتها، أو شاب نجا من حادث وظلت ذاكرته تحبسه في لحظة الرعب لسنوات. هذه الأمثلة تُعزز من رسالته: الذاكرة ليست مجرد أداة عقلية، بل مكون جوهري من التجربة الإنسانية.
علاقة الكتاب بالعلم الحديث
يرتكز الكتاب على أحدث الدراسات في علم الأعصاب، خصوصًا في فهم دور الحُصين والقشرة الجبهية في الذاكرة، ويستعرض كيف أن بعض أساليب التعليم والتحفيظ تفشل لأنها تتجاهل السياق العاطفي والمعنوي للمعلومة. كما ينتقد المؤلف اعتماد البعض على “حيل” تحسين الذاكرة، مثل التكرار الآلي أو الربط القسري، دون فهم للأساس البيولوجي الذي يجعل الذاكرة تعمل بفعالية.
لماذا يُعد هذا الكتاب مهمًا اليوم؟
في عصر السرعة والمشتتات الرقمية، حيث نستهلك مئات المعلومات يوميًا، يصبح فهم كيفية عمل الذاكرة ضرورة نفسية واجتماعية. هذا الكتاب لا يعلمك كيف تتذكر المزيد، بل كيف تتذكر ما يهم حقًا: اللحظات، العلاقات، المبادئ، الأحداث التي تشكل من تكون. إنه كتاب يساعد القارئ على استعادة السيطرة على ذاكرته وهويته وسط زخم من النسيان.
قراءة شخصية: من المعرفة إلى الإدراك
عند قراءة “لماذا نتذكر”، لا يستطيع القارئ إلا أن يتأمل في تجاربه الشخصية: لماذا تظل ذكرى معينة حاضرة رغم مرور الزمن؟ لماذا ننسى أسماء بسهولة ونتذكر تعبير وجه معين؟ كيف تؤثر علاقتنا بذواتنا على ما نختزن من ذكريات؟ الكتاب ليس دليلًا فنيًا، بل رحلة إنسانية عميقة نحو الذات.
نقاط قوة الكتاب
- أسلوب سردي جذاب ومبسط دون إغفال الدقة العلمية.
- تغطية شاملة لكل جوانب الذاكرة: البيولوجية، النفسية، الاجتماعية.
- توظيف فعال للقصص الإنسانية والحالات الواقعية.
- تقديم حلول عملية مبنية على البحوث العلمية، لا على التخمينات.
اقتباسات بارزة
“نحن لا نتذكر لأننا نريد التذكر، بل لأننا نهتم.” — تشاران رانجاناث
“النسيان ليس فشلًا، بل آلية ضرورية تفسح المجال لما يستحق البقاء.”
خلاصة المقال
كتاب “لماذا نتذكر” لتشاران رانجاناث هو أكثر من مجرد عمل أكاديمي. إنه دعوة لفهم أعمق لما يجعلنا بشرًا، لما يُبقي الحب حيًا رغم غياب الأشخاص، وما يجعل طفولة مضت منذ عقود تظهر في أحلامنا. إنه كتاب يعيد تعريف الذاكرة لا كأداة حفظ، بل كقوة تشكيل، وهوية، ومعنى.
لمعرفة المزيد: لماذا نتذكر؟ رحلة في دهاليز الذاكرة البشرية من منظور علمي وإنساني