"ما أتى به الوارد" لمحيي الدين بن عربي: قراءة في الحكمة الصوفية والعرفان الإلهي

مقدمة
يُعد الشيخ محيي الدين بن عربي (1165–1240م) من أبرز الشخصيات الصوفية والفكرية في تاريخ الإسلام، ويُعرف بـ”الشيخ الأكبر” نظرًا لغزارة إنتاجه وتفرده في الطرح الصوفي الفلسفي. من بين كتبه العديدة، يبرز كتاب “ما أتى به الوارد” بوصفه عملًا رمزيًا عميقًا يعكس تجربة عارف بالله يتلقى “الواردات الإلهية” ويتفاعل معها روحيًا وعمليًا.
هذا الكتاب ليس من المؤلفات المطولة لابن عربي مثل “الفتوحات المكية” أو “فصوص الحكم”، بل هو نص موجز نسبيًا لكنه مكثف المعنى، مليء بالإشارات الروحية والمفاهيم العرفانية التي تكشف عن طبيعة العلاقة بين العبد والرب من منظور صوفي خالص. سنستعرض في هذا المقال السياق الذي كتب فيه ابن عربي هذا العمل، بنيته، المفاهيم المركزية فيه، وأثره على التراث الصوفي.
السياق الفكري والروحي للكتاب
كتب ابن عربي هذا العمل في مرحلة متقدمة من تجربته الصوفية، حيث كان قد قطع شوطًا كبيرًا في سيره الروحي وبلوغه مراتب “التحقيق”. ومن المعروف أن “الواردات” في اصطلاح الصوفية تشير إلى الخواطر أو الإشارات التي ترد على قلب العبد من الله تعالى. وهي تختلف عن الهواجس النفسية أو الوساوس، لأنها تُعد نوعًا من الخطاب الإلهي الباطني.
ابن عربي يصف هذه الواردات بأنها ليست مما يُكتسب بالسعي، بل هي “هبة” من الله، تأتي بغتة وتحدث في القلب آثارًا لا يمكن للعقل المجرد أن يحللها تحليلاً منطقيًا أو عقلانيًا صرفًا. لذا، فالكتاب يحاول أن يشرح طبيعة هذه الواردات، وكيفية استقبالها والتفاعل معها، ومتى يجب العمل بها أو تركها.
محتوى الكتاب وبنيته
ينقسم الكتاب إلى فقرات قصيرة أو مقاطع، كل منها يمثل “واردًا” معينًا أو تعليقًا على وارد. ولا يعتمد ابن عربي في هذا الكتاب أسلوب العرض المنهجي التقليدي، بل يقدم مقاطع وجدانية، كتأملات نابعة من تجربة ذوقية مباشرة، وهذا ما يُعرف بـ”العلم اللدني” في مصطلحات القوم.
يمكن تصنيف محتوى الكتاب ضمن المحاور التالية:
- تعريف الواردات: يبدأ ابن عربي بتحديد ماهية الوارد، ويميز بين واردات الحق وواردات النفس أو الشيطان. يوضح أن الوارد الحقاني يُحدث أثرًا في القلب ويقرّبه من حضرة الله.
- علامات الوارد الصادق: يشير ابن عربي إلى أن من علامات الوارد الإلهي: حصول الطمأنينة، التواضع، والبعد عن الحظوظ النفسية. أما الوارد النفسي فقد يقود إلى الغرور أو ادعاء المقامات.
- التمييز بين الإلهام والوسواس: يفرق بين ما يرد على القلب من عند الله بوصفه “إلهامًا”، وبين الوساوس التي قد تتشابه في البداية، ولكنها لا تؤدي إلا إلى الشك والتردد والانحراف عن المقصد الإلهي.
- الموقف من العمل بالوارد: يعالج مسألة مهمة تتعلق بمدى العمل بما يأتي في هذه الواردات. فهو يرى أن ليس كل وارد يجب العمل به مباشرة، بل يُعرض على الشرع والعقل والقلب.
- أثر الواردات في السلوك والتصوف: يشير ابن عربي إلى أن الواردات تربي العبد، وتجعله يتخلق بأخلاق الحق، وتزكي نفسه، وترفعه إلى المقامات العليا كـ”المراقبة”، و”المشاهدة”، و”المعرفة”.
أهم المفاهيم الصوفية في الكتاب
يحفل “ما أتى به الوارد” بالعديد من المفاهيم الصوفية التي تشكل بنية فكر ابن عربي، منها:
- الفناء والبقاء: من خلال الواردات، يتعلم العبد كيف يفنى عن إرادته الشخصية ليبقى بإرادة الله. الفناء ليس نفيًا للوجود المادي بل هو تحوّل في الوعي.
- العلم اللدني: وهو العلم الذي يأتي بلا وسائط عقلية أو نقلية، بل يُلقى مباشرة في القلب. ابن عربي يرى أن هذا العلم يأتي من الواردات، وأنه حقيقي لا يُكذب.
- التحقق بالأسماء الإلهية: يتطرق إلى أن الواردات قد تكون إشارات من أسماء الله الحسنى، وعلى السالك أن يتخلق بها ويتعامل معها بوصفها طرقًا للوصول إلى معرفة الذات الإلهية.
- الأدب مع الحق: يشدد ابن عربي على أهمية أدب العارف في استقبال الوارد. لا ينبغي له أن يعترض أو يسأل عن “لماذا”، بل عليه أن يتسلمها بخشوع وتفكر.
البعد العملي والتربوي للكتاب
رغم طابعه التأملي، فإن الكتاب يحمل بُعدًا تربويًا واضحًا، إذ أنه يعلّم المريد كيف يزكّي نفسه ويتعامل مع مشاعره وإلهاماته. لا يتركه في تيه التجربة، بل يضع له ضوابط التمييز بين الحق والباطل، ويُبين له كيف يحوّل الوجدان إلى سلوك.
الكتاب أيضًا يكشف عن جانب من “التربية الذوقية” التي لا تعتمد على الحفظ أو التكرار، بل على الشهود، والمكاشفة، ومعرفة النفس. لذا، هو مفيد للمبتدئ والمتقدم على السواء، شريطة أن يُقرأ بتوجيه ومصاحبة شيخ عارف.
أثر الكتاب في التراث الصوفي
رغم أن “ما أتى به الوارد” ليس من أكثر كتب ابن عربي تداولًا، إلا أن أثره واضح في مدارس صوفية لاحقة، مثل الطريقة الشاذلية والنقشبندية، حيث تم الاعتناء بمفهوم “الواردات” كوسيلة من وسائل التزكية والتوجيه.
وقد اقتبس منه لاحقون مثل عبد الكريم الجيلي في حديثه عن المقامات، وعبد الغني النابلسي في كتبه التي تعالج تلقي الإشارات الإلهية، بل نجد صدى أفكاره في كتابات محمد بن عبد الجبار النفري الذي تحدث عن “الوقفات” و”المواقف” بنفس الروح الذوقية.
خاتمة
كتاب “ما أتى به الوارد” هو تجلٍّ من تجليات التجربة العرفانية لمحيي الدين بن عربي، يعكس إدراكه العميق لتداخل العوالم الروحية والنفسية، ويقدم خريطة لطريق لا يسلكه إلا من طهرت سريرته وتوجه بقلبه إلى حضرة الحق.
إن قراءة هذا الكتاب ليست مجرد مطالعة فكرية، بل هي نوع من “المجاهدة”، حيث يُطلب من القارئ أن يشارك المؤلف تجربته، لا أن يكتفي بفهمها. إنه كتاب موجّه للقلب أكثر من العقل، وللذوق أكثر من النظر. ومن هنا تأتي أهميته في التراث الصوفي باعتباره نصًا حيًا ينبض بالحضور الإلهي، ويُرشد السالكين إلى كيفية الإصغاء لصوت الغيب دون أن يضلوا الطريق.
لمعرفة المزيد: “ما أتى به الوارد” لمحيي الدين بن عربي: قراءة في الحكمة الصوفية والعرفان الإلهي