تربية الإنسان: رحلة إلى قلب الطفولة وأعماق الأبوّة

في زاوية هادئة من مكتبها بلندن، جلست الدكتورة والمعالجة النفسية إيما سفانبرج تتأمل آلاف القصص التي جمعتها من عيادتها، من أمهات وآباء منهكين، يحاولون أن يفهموا أنفسهم وأطفالهم. كانت جميع القصص تشترك في شيء واحد: القلق، الحيرة، وغالبًا الشعور بالذنب. لماذا لا أستطيع أن أكون الأب المثالي؟ لماذا تبكي طفلتي كل ليلة؟ هل أخطأت عندما صرخت؟ ومن بين كل هذه الأسئلة، خرج كتابها الأشهر “تربية الإنسان: كيف تربي طفلك وفق طبيعتك وطبيعته”، كنداء إنساني صادق يدعو الأهل إلى أن يتصالحوا مع أنفسهم أولًا، ليتمكنوا من تربية أطفال أصحاء نفسيًا.
من قلب العلم إلى حنان التجربة
إيما سفانبرج ليست فقط مؤلفة، بل هي معالجة نفسية متخصصة في الصحة النفسية للأمهات خلال الحمل وبعد الولادة، وناشطة في مجال تمكين الوالدين. جمعت في هذا الكتاب بين خبرتها السريرية، وأبحاث علم النفس، وتجربتها الإنسانية كأم.
ما يميز هذا العمل أنه لا يقدم وصفات سحرية لتربية الأطفال، بل يعيد طرح السؤال الجوهري: “من أنت كوالد؟ وما الذي يحرك سلوكك حين تتعامل مع طفلك؟” وهنا يكمن الفرق الجوهري في الطرح؛ إذ أن إيما لا تدعو لتربية الطفل فقط، بل تدعو لتربية الإنسان – الأب، الأم، والطفل – معًا، في علاقة شفاء ونمو مشترك.
لماذا هذا الكتاب مختلف؟
في خضم سيل الكتب التي تتحدث عن كيفية جعل الطفل مطيعًا أو عبقريًا، يبرز هذا العمل بلهجة مختلفة تمامًا. لا يُعنى بتقنيات النوم أو قوائم الطعام، بل بالجوهر العاطفي والنفسي للعلاقة بين الأهل والطفل. تقول إيما:
أحيانًا نحتاج أن نربي أنفسنا، قبل أن نربي أبناءنا.
وهنا يبرز المفهوم المركزي للكتاب: كل سلوك أبوّي صادر عن تاريخ نفسي طويل، وكل سلوك طفولي هو استجابة لعالم داخلي معقّد.
فصول تنبض بالحياة
الكتاب مقسّم إلى فصول تمشي بك خطوة بخطوة عبر مراحل التفاعل الأبوي، وتطرح أسئلة عميقة مثل:
- ما الذي يحفّزك كأب أو أم؟
- ما الذكريات التي تحرّك فيك ردود الفعل؟
- كيف نفهم بكاء الطفل دون أن نغرق في الشعور بالعجز أو الفشل؟
كل فصل يبدأ بحكاية من الواقع، من أم تشعر أنها تفقد أعصابها، أو أبّ يخشى أن يعيد على ابنه نفس التربية القاسية التي تلقاها. ثم تنسج المؤلفة حول القصة تحليلًا نفسيًا دقيقًا، وتمارين للتأمل الذاتي، تقود القارئ نحو الفهم والشفاء.
الطفل مرآة الأهل
واحدة من الأفكار القوية في الكتاب أن الطفل لا يختبر العالم بمفرده، بل من خلالنا. فحين نغضب من بكائه أو نضيق من عناده، ما الذي نراه حقًا؟ هل هو سلوكه أم انعكاس لخوف دفين فينا؟ قد يكون الخوف من أن نُرفض، أو أن نكون عاجزين، أو أن نُدان كآباء فاشلين.
في هذا السياق، تشير سفانبرج إلى أن أكبر هدية يمكن أن نقدمها لأطفالنا هي وعينا بأنفسنا. وتدعو إلى التوقف قليلًا أمام مشاعر الغضب، الإحباط، وحتى الحب، وفهم مصدرها الحقيقي.
التربية بالاتصال لا بالتحكم
ينقض الكتاب فكرة “التحكم” كوسيلة تربية، ويركز على الاتصال العاطفي كأداة بناء. ترى المؤلفة أن كثيرًا من تقنيات التربية التي تعتمد على العقاب أو المكافأة تفصل الطفل عن ذاته الحقيقية، وتدفعه للتصرف بدافع الخوف أو الطمع، بدلًا من الفهم والاندماج.
تدعو سفانبرج إلى التواصل مع الطفل بلغة تُشعره بالأمان، خاصة في لحظات ضعفه. تقول:
الأطفال لا يحتاجون إلى آباء مثاليين، بل إلى آباء حقيقيين، متصلين بمشاعرهم.
بين الحاضر والماضي: الأثر الخفي للطفولة
في فصل مؤثر، تتحدث الكاتبة عن كيف يعيد الآباء والأمهات تمثيل تجارب طفولتهم من دون وعي. قد يجد أحدهم نفسه يصرخ بنفس نبرة والده، أو يشعر بالخزي من فشله في إرضاء طفله، لأنه كان طفلًا غير مرضي عنه ذات يوم.
هذا الفصل يعد حجر الزاوية في المفهوم العلاجي للكتاب، حيث تدعو المؤلفة إلى تفكيك الموروثات النفسية، وإعادة بناء علاقة أبوية أكثر وعيًا وحرية.
تمارين التأمل: عودة إلى الداخل
ما يجعل هذا الكتاب تطبيقيًا، هو دمجه للجانب النظري بالتأملات والتمارين النفسية. مثل:
- تمرين “الكرسيين”: حيث يتحدث القارئ مع “طفله الداخلي”.
- تمرين “ذاكرة الغضب”: لاستكشاف أول لحظة شعر فيها بالخزي أو العجز.
- تمرين “المساحة الآمنة”: لتصور بيئة آمنة له ولطفله معًا.
هذه التمارين تجعل من القراءة رحلة علاجية، لا مجرد اكتساب معرفة.
لا توجد تربية بلا أخطاء
في نبرة متعاطفة وإنسانية، تذكرنا المؤلفة بأن الأخطاء جزء من الرحلة. الطفل لا يحتاج إلى أبوين لا يخطئون، بل إلى من يعتذرون ويتعلمون. وتقول:
الاعتذار من الطفل لا ينقص من هيبتك، بل يبني جسر الثقة بينكما.
صدى واسع وتأثير عالمي
لاقى الكتاب رواجًا واسعًا في الأوساط التربوية والعلاجية، وتمت ترجمته إلى عدة لغات. استخدمه مختصون كمرجع في تدريب الآباء، وتناقلته مجموعات دعم الأمهات، وأشاد به خبراء التربية كتحوّل نوعي في الخطاب الأبوي الحديث.
اقتباس بارز من الكتاب:
إذا أردنا تربية أطفال قادرين على حب أنفسهم والعالم، فعلينا أن نبدأ بتعلّم كيف نحب ذواتنا، حتى بكل هشاشتها.
نقد علمي ووجهات نظر مختلفة
رغم إشادة الكثيرين بالكتاب، إلا أن بعض النقّاد رأوا أن التركيز على الجانب النفسي قد يُغفل البُعد الاجتماعي أو الثقافي لتجربة الأبوة. آخرون تساءلوا إن كانت هذه الرؤية المثالية تناسب جميع الطبقات الاجتماعية، خاصة في ظل ضغوط اقتصادية خانقة.
لكن حتى النقاد اتفقوا على أن الكتاب أعاد تعريف العلاقة بين الأهل وأطفالهم كعلاقة شفاء مشترك، لا مجرد توجيه وتلقين.
سيرة المؤلفة: إيما سفانبرج
إيما سفانبرج (Emma Svanberg) هي عالمة نفس إكلينيكية ومؤلفة بريطانية، حاصلة على درجة الدكتوراه في الصحة النفسية، وهي متخصصة في دعم الأمهات خلال فترة الحمل وما بعد الولادة، وقد أسست مبادرة “التحالف الأمومي” لدعم الأمهات نفسيًا. تعرف بلقب “The Mumologist” في الأوساط الرقمية.
لماذا نحتاج هذا الكتاب اليوم؟
في عصر التسارع والقلق الأبوي المفرط، يقدم هذا الكتاب جرعة وعي وتسامح مع الذات. إنه يدعونا لنكون حقيقيين مع أطفالنا، لا مثاليين. ويذكرنا أن التربية ليست معركة للسيطرة، بل مساحة للتواصل والشفاء.
لمعرفة المزيد: تربية الإنسان: رحلة إلى قلب الطفولة وأعماق الأبوّة