سير

فيلهلم أوستفالد: مؤسس الكيمياء الفيزيائية ورائد علم التحفيز – سيرة عالم نوبل الذي مزج بين الطاقة والعقل

مولده وبداياته

في الثاني من سبتمبر عام 1853، وُلد فيلهلم أوستفالد في مدينة ريجا، التي كانت آنذاك جزءًا من الإمبراطورية الروسية (وتقع حاليًا في لاتفيا). نشأ في أسرة ألمانية بسيطة، وكان والده يعمل صانعًا للبراميل. أظهر منذ صغره شغفًا بالعلوم، وخاصة الفيزياء والكيمياء، وكان كثير التأمل في الظواهر الطبيعية من حوله.
التحق بمدرسة “ريال جيمنازيوم” حيث تفوق في العلوم والرياضيات. وفي عام 1872، التحق بجامعة دوربات (Tartu)، ودرس الكيمياء والفيزياء، متتلمذًا على أيدي علماء بارزين مثل أرثر فون أوتينجن وكارل شميدت. حصل على درجة الدكتوراه عام 1878 عن أطروحته في الكيمياء الفيزيائية.

الحياة الأكاديمية والبحثية

بدأ أوستفالد حياته المهنية بالتدريس في المعهد التقني في ريجا، ثم أصبح أستاذًا في جامعة لايبزيغ عام 1887، حيث تولى كرسي الكيمياء الفيزيائية، وهو منصب أسّسه خصيصًا لهذا الفرع الجديد من العلم. خلال فترة عمله في لايبزيغ، أصبحت الجامعة مركزًا عالميًا للكيمياء الفيزيائية.
كان من أوائل العلماء الذين جمعوا بين الكيمياء والفيزياء لدراسة التفاعلات الكيميائية من منظور ديناميكي وتوازني. نشر عددًا كبيرًا من الأبحاث العلمية، كما أسس مع زملائه مثل ياكوبوس فانت هوف وفان آرنينيوس مجلة علمية متخصصة بعنوان Zeitschrift für physikalische Chemie، والتي أصبحت مرجعًا عالميًا في هذا المجال.

إسهاماته العلمية

1. التحفيز (Catalysis)

كان فيلهلم أوستفالد من أوائل من درسوا ظاهرة التحفيز بشكل منهجي. بيّن أن المواد المحفّزة تُسرّع التفاعلات الكيميائية دون أن تستهلك، وقد أسهمت أبحاثه في تأسيس القواعد الأساسية للكيمياء الصناعية، خاصة في تصنيع حمض النيتريك عبر عملية أوستفالد (Ostwald Process).

2. التوازن الكيميائي وسرعة التفاعل

قام بتحليل قوانين التوازن في التفاعلات الكيميائية وسرعاتها، ووضع معادلات رياضية دقيقة تشرح كيفية تفاعل المواد تحت ظروف مختلفة. كانت هذه النظريات بمثابة حجر الأساس للكيمياء الفيزيائية الحديثة.

3. رفضه المبكر للذرة

كان أوستفالد لفترة طويلة من منكري وجود الذرات، واعتقد أن الطاقة وليس المادة هي الأساس في تفسير الظواهر. غير أنه غيّر موقفه لاحقًا، خاصة بعد التجارب الحاسمة التي أثبتت وجود الجزيئات والذرات في أوائل القرن العشرين، ومنها تجارب جان بيرين حول الحركة البراونية.

4. نظرية الألوان والطاقة

بعد تقاعده، ركز أوستفالد على موضوعات فلسفية وعلمية أخرى، منها دراسة الألوان من منظور علمي ونفسي، وأصدر كتبًا مثل Color Primer وColor Atlas، وساهم في وضع أساسات نظم الألوان الحديثة.

جائزة نوبل

في عام 1909، مُنح فيلهلم أوستفالد جائزة نوبل في الكيمياء “تقديرًا لأعماله حول التحفيز، ولدراساته في المبادئ الأساسية للتوازن الكيميائي وسرعة التفاعل”. كانت الجائزة تتويجًا لعقود من العمل الدؤوب، وقد حظي بتقدير واسع من المجتمع العلمي العالمي.

أنشطته الفكرية والاجتماعية

كان أوستفالد أيضًا مفكرًا وفيلسوفًا، وكتب كثيرًا في الفلسفة والعلم. آمن بمبدأ “عدم إهدار الطاقة”، ليس فقط في المختبر، بل في الحياة الاجتماعية والأخلاقية كذلك. دعم حركة السلام العالمية، وانضم إلى التيار المونيستي الذي يرى أن الطبيعة والعقل البشري جزء من نظام كوني موحّد.
كما كان من أنصار اللغة العالمية “إيدو” (Ido)، وهي لغة مصطنعة تهدف إلى تسهيل التواصل بين الشعوب، حتى أنه تبرع بجزء من جائزته لدعم مشاريع نشر هذه اللغة.

إرثه العلمي

ترك فيلهلم أوستفالد إرثًا علميًا هائلًا:

  • أسس علم الكيمياء الفيزيائية.
  • أثّر في أجيال من العلماء، منهم تلاميذه الحائزون على نوبل مثل والتر نيرنست.
  • نشر أكثر من 500 ورقة علمية، و45 كتابًا.
  • ساهم في تطوير طرق التحليل الكمي، وأجهزة القياس مثل اللزوجة والموصلية.
  • دعم تطوير العلوم التطبيقية والصناعات الكيميائية.

وفاته

توفي فيلهلم أوستفالد في الرابع من أبريل عام 1932، عن عمر ناهز 78 عامًا، في بلدة غروس بوتشير في ألمانيا. دُفن وقد كُتب على قبره عبارته الشهيرة:
“لا تُهدر الطاقة – استخدمها”، في إشارة إلى فلسفته في الحياة والعلم معًا.

خاتمة

يبقى فيلهلم أوستفالد أحد أعمدة الكيمياء الحديثة. لم يكن مجرد عالم مختبر، بل فيلسوفًا، مصلحًا، ومفكرًا يرى في العلم وسيلة لفهم الكون وتحسين حياة البشر. ساهمت أعماله في بلورة مفاهيم الكيمياء الفيزيائية، وأثّرت في الصناعة، والطب، والطاقة، حتى أصبحت جزءًا من حياة الإنسان اليومية.
من ريجا إلى لايبزيغ، ومن المختبر إلى منصة نوبل، سطّر أوستفالد مسيرة علمية وفكرية نادرة، أثمرت معرفة تُدرس وتُطبق حتى اليوم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى