من برايتووتر إلى المجد: السيرة الذاتية لإرنست راذرفورد – سيد الذرة

في قرية صغيرة تُدعى برايتووتر في نيوزيلندا، وُلد في 30 أغسطس 1871 فتى يُدعى إرنست راذرفورد، لم يكن أحد يعلم حينها أن هذا الطفل الريفي سيُصبح لاحقًا “أبو الفيزياء النووية” ومُنقّب أسرار الذرّة.
رغم نشأته البسيطة، سيقوده شغفه بالعلم إلى أن يصبح أول من صاغ نموذجًا واقعيًا لتركيب الذرة، وحصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1908 عن أبحاثه في تفكك العناصر ونشاطها الإشعاعي.
لقد بدأت رحلته من الحقول المغموسة بندى الفجر، لكنها انتهت في أروقة المجد الأكاديمي في جامعة كامبريدج، حيث علّمت اكتشافاته أجيالًا من العلماء كيف يتحدثون إلى نواة الذرّة.
النشأة والطفولة: البدايات المتواضعة لطفل فضولي
وُلد راذرفورد في أسرة مكوّنة من اثني عشر طفلاً، وكان هو الرابع بينهم. كان والده مزارعًا ونجّارًا، بينما كانت والدته مدرسة سابقة. عاش طفولة متقشفة، تتخللها أعمال الزراعة اليدوية والدراسة في مدرسة محلية بسيطة.
وسط الحقول النيوزيلندية، بدأت تتفتّح في ذهن الطفل الصغير أسئلة تتجاوز سنّه. اعتاد أن يُفكك الأشياء ليفهم كيف تعمل، حتى الساعات المنزلية لم تسلم من فضوله. ووفقًا لما ذكرته مؤسسة نوبل (2019)، فقد “ظهرت بوادر عبقريته في سن مبكرة من خلال قدرته على حل المسائل الرياضية الصعبة بدون مساعدة.”
التعليم والمسار الأكاديمي: خطوات نحو القمة
بدأ تعليمه في مدرسة برايتووتر، ثم انتقل إلى كلية نيلسون حيث تفوّق في جميع المواد، لا سيما الرياضيات والفيزياء. وفي عام 1890، حصل على منحة إلى جامعة كانتربري (University of Canterbury) في كرايستشيرش، حيث نال درجة البكالوريوس في الآداب والعلوم عام 1893.
في نفس العام، حصل على “منحة 1851” المرموقة التي مكنته من الالتحاق بجامعة كامبريدج في إنجلترا، تحت إشراف العالِم العظيم جوزيف جون طومسون – مكتشف الإلكترون.
عمل راذرفورد على بناء أجهزة كشف لاسلكية، ثم غيّر مجرى أبحاثه نحو النشاط الإشعاعي. وكانت هذه اللحظة نقطة الانطلاق نحو مجده العلمي.
الانطلاقة المهنية: من التجارب إلى الثورة
بدأ راذرفورد حياته المهنية في مختبر كافنديش بكامبريدج. ثم انتقل إلى جامعة ماكغيل في كندا عام 1898، وهناك أجرى أبحاثه الرائدة على النشاط الإشعاعي.
واجه العديد من الصعوبات في بداياته، كقلة التمويل وضعف أدوات القياس. لكنه عوّض ذلك بالبراعة الفائقة في ابتكار طرق جديدة لتحليل النتائج والتجريب.
جدول زمني لأهم المحطات:
السنة | المحطة العلمية |
---|---|
1898 | اكتشاف نوعي الإشعاع: ألفا وبيتا |
1902 | صياغة نظرية تفكك العناصر |
1908 | الفوز بجائزة نوبل في الكيمياء |
1911 | اقتراح نموذج راذرفورد الذري |
1919 | أول من قام بتحويل عنصر إلى آخر (تحويل النيتروجين إلى أكسجين) |
الإنجازات الثورية: راذرفورد وتفجير الذرّة
1898 – اكتشاف إشعاعات ألفا وبيتا
اكتشف أن الإشعاع المنبعث من اليورانيوم يحتوي على نوعين: ألفا (موجبة) وبيتا (سالبة)، ممهّدًا الطريق لفهم الطبيعة الكهرومغناطيسية للذرة.
1902 – نظرية تفكك العناصر
مع زميله فريدريك سودي، أثبت أن العناصر المشعة تتحول إلى عناصر أخرى، في مفهوم هزّ الاعتقاد السائد بأن العناصر ثابتة.
1911 – نموذج راذرفورد الذري
بعد تجربة رقائق الذهب الشهيرة، اقترح أن الذرة تحتوي على نواة كثيفة وإلكترونات تدور حولها، مخالفًا تمامًا نموذج طومسون السابق.
كان من المستحيل أن أقوم بهذا الاكتشاف لو لم تكن ذهنيتي مهيأة لتقبّل الاحتمالات المستحيلة.– إرنست راذرفورد
1919 – أول تفاعل نووي بشري
أطلق بروتونات على نواة النيتروجين، فحوّلها إلى أكسجين – مُثبتًا أنه بالإمكان تغيير بنية العناصر عبر تفاعلات نووية.
لحظة نوبل: القمة المنتظرة
في 10 ديسمبر 1908، تسلّم راذرفورد جائزة نوبل في الكيمياء “تقديرًا لأبحاثه حول تفكك العناصر الكيميائية وطبيعة الإشعاع المنبعث منها” (المصدر: NobelPrize.org).
جاء هذا الفوز في سياق عالمي يشهد ولادة الفيزياء النووية. لقد كان اكتشافه ضرورة علمية مُلحّة لفهم البنية الداخلية للمادة.
وقد قال راذرفورد في خطاب قبوله: “أنا فيزيائي نال جائزة في الكيمياء!”، في دلالة طريفة على عبوره لتخصصات متعددة.
التحديات والإنسان خلف العبقرية
لم يكن طريقه مفروشًا بالورود، بل واجه شكوكًا من المجتمع العلمي، ومرّ بمواقف مُحبطة كفشل بعض التجارب.
لكن ما ميّز راذرفورد كان إصراره الهادئ وقدرته على تحويل الفشل إلى فرصة لفهم أعمق.
روى أحد طلابه أنه ذات يوم عندما فشلت تجربة كان يعمل عليها منذ أسابيع، ابتسم راذرفورد وقال: “هذا يعني أن هناك شيئًا لم نفهمه بعد… وهذا أجمل ما في العلم.”
الجوائز والإرث: ما تركه للعالم
إلى جانب جائزة نوبل، حصل على أوسمة مرموقة مثل:
- وسام الاستحقاق البريطاني (1925)
- لقب لورد (1931)
- رئاسة الجمعية الملكية البريطانية (1925–1930)
نشر أكثر من 80 بحثًا علميًا. وتخرّج على يديه علماء حصلوا على جوائز نوبل، مثل نيلز بور وجيمس تشادويك.
ولا تزال وحدة النشاط الإشعاعي “رذرفورد” تُستخدم تكريمًا له.
الجانب الإنساني: عالم بروح معلم
كان محبًا للتعليم والتبسيط. أصرّ على تدريس الطلاب الجدد بنفسه. دعم تعليم الفتيات في العلوم، وشجّع على استخدام الفيزياء في خدمة المجتمع.
قال في إحدى محاضراته:
المعرفة العلمية هي أعظم إرث يمكن أن نتركه للأجيال القادمة.
ما بعد نوبل: الاستمرار في الريادة
واصل راذرفورد أبحاثه حتى وفاته. شغل منصب مدير مختبر كافنديش، حيث اكتُشف النيوترون عام 1932 على يدي أحد طلابه.
توفي في 19 أكتوبر 1937 بعد جراحة فاشلة في الفتق، ودُفن في دير وستمنستر بجانب عمالقة مثل نيوتن وداروين.
الخاتمة: أثر خالد في ذرة الوعي البشري
سيرة إرنست راذرفورد تُلهم كل من بدأ من الصفر. من صبي يركض بين الحقول في نيوزيلندا إلى قائد ثورة علمية غيّرت وجه الفيزياء.
لقد علّمنا أن الذرّة ليست نهاية، بل بداية لفهم أعقد أسرار الكون. إرثه ما زال يضيء المختبرات، وأفكاره تواصل صنع المستقبل.